عبير النحاس - خاص ترك برس

لم تفارق صورتها مخيلتي بعد أن رأيتها تعد طفليها للخروج صباحا نحو العمل لا المدرسة.

كنت أشاهد في التقرير الذي أعدته قناة الجزيرة عن معاناة عائلة سورية ما يدعو للصدمة أولا، فضلا عن الشفقة، والشعور بالذنب، وربما المبادرة لكفالة تلك العائلة كما حصل فعلا مع البعض.

في هذه المرحلة تحديدا، بات من الواضح لكل من عاش وعاين تجارب السوريين، وغيرهم ممن عانوا ويلات الحرب أن المشكلة الحقيقية للأسر هي "عجز الأمهات".

وقد نستطيع تقييم حجم مشكلة العجز، لو تذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالاستعاذة منه صباحا وفي المساء.

والعجز  يبدأ من العقل أولا، ثم من النفس التي لا تحمل روح التفاؤل والإيمان بأن الله معنا وأمرنا بالعمل والسعي ثم تكفل لنا بالرزق، وأخيرا الكسل وفقدان الهمة.

لا أريد هنا أن أتكلم عن الأسر العادية والتي ما زالت تحتفظ بهيكلها الطبيعي المكون من الأم والأب والأولاد وربما الجد والجدة، فهؤلاء إن عجز فيهم الرجل فمرده إلى طبيعته وتربيته وتكوينه.

إنما أريد تلك الأسر السورية والتي غالبا ما تغيرت هياكلها، وباتت الأم هي الراعية والمسؤولة الوحيدة عن عائلتها، في ظل غياب الرجل موتا أو اعتقالا أو على الجبهات.

ففي القصة التي قدمها تقرير قناة الجزيرة، وأظهر لنا حكايات أليمة لأسر سورية هنا في إسطنبول التركية، فقدت المعيل واعتمدت الأمهات على أولاد بعمر العاشرة وقريبا منها، في العمل بالمشاغل لتأمين لقمة العيش، وحرموا بالطبع من الذهاب للمدرسة.

نظر البعض بشفقة، وبعضهم أخذته الحميه فأشبع العرب والغرب بشتائمه، والفاعل منهم تكفل بأسرة وأنقذها من براثن الحاجة، وجعلها في موازينه وهو ما نشكره عليه.

لكن الناظر إلى الوجود السوري في تركيا وفي إسطنبول وحدها يرى أن المأساة عظيمة، وأن كفالة أسرة أو أسرتين سلطت عليهم قناة الجزيرة الضوء لم يحل ولو واحد بالمائة من المشكلة، وأن أطفال السوريين ما زالوا في المشاغل، والمطاعم، والشوارع يبحثون عن لقمة العيش.

ويسأل بعضهم عن أصل الحكاية.. ومنشأها..

وأجيب أنها تلك التربية الخاطئة التي تلقتها المرأة السورية أولا، والتي يجب تغييرها بكل ما أوتينا من قوة ووقت لننقذ ما يمكن إنقاذه من أجيالنا وأسرنا.

تلك التربية التي اعتادت فيها النساء أن يقلن لنا عندما ننجح: "العقبى للفرحة الكبيرة"..

والتي جعلت مسؤولية مساعدة الوالدة على بناتها دون الأولاد..

والتي علمتنا أن  أكبر هموم الوالدة أن تتقن ابنتها صنع الأطباق الصعبة وترتيب الأدراج..

وجعلت مكانها وراء كل عظيم لا بجانبه..

التربية التي سمحت وقبلت من الرجل أن يقول للمرأة نعم تعلمي ولكن لا أريدك عاملة..

وغيرها وغيرها من أخطاء مجتمعنا، والتي كانت تسترها بيوتنا ومجتمعاتنا المتكافلة، واليوم انكشفت وطفت على السطح بعد أن فقدنا أمان البيوت، والمال، وجمعنا، وحتى الرجال، بعد غيابهم أو إصابتهم أو حتى عجزهم وهم بيننا.

ما نحتاجه أولا هو تغيير المفاهيم.. النظرة.. الطريقة التي نرى فيها الأنثى كطرف ضعيف مهمته في المنزل هي التنظيف والطبخ، نغير أولا نظرتنا لهذه الأعمال ولنراها بعيدا عن التقديس الذي توليها إياه مجتمعاتنا، فأي طعام يشبعنا، والتنظيف مهمة كل أفراد العائلة لا الأم وحدها، لكن عمل الأم يدفئ شعورنا بالكرامة والاستغناء عن الناس.

هنا نتوقف.. نبدأ من الأنثى.. نبدل أيضا نظرتنا إليها وإلى مهمتها  في بيتها ومع عائلتها.. ونراها المسؤول والبديل عن الزوج في حالات كثيرة عشناها وعاينتها عيوننا في مجتمعاتنا، وهي "مرض الرجل أو موته أو غيابه لسفر أو اعتقال أو غير ذلك".

لنعطيها الثقة بنفسها أولا، نخبرها أنها القادرة والمسؤولة عن عائلتها عندما يغيب الأب، نمكنها من الدفاع عن حقوقها، نعلمها، نعينها على العمل، ونلقنها فن التملك والتصرف والإنفاق، وقوة الشخصية التي تضبط بها عائلتها، وتسيطر عليها، بالمعنى الأصح نربيها تربية إسلامية صحيحة كتلك التي تلقتها الصحابيات.

حينها فقط سنجدها لو فقدت المعيل، صامدة، ثابتة، تبحث عن عمل لها بثقة، لا عن معدد يضيع أسرتها ويزيد شقاءها.

وحينها ستعيل أسرتها دون أن تعتمد على الصغار من الذكور فيها، تضبطهم، وتصادقهم، يتعلمون، ويتفاعلون مع المجتمعات يقوة يستمدونها من قوتها واستغنائهم بها عن الناس، دون انكسار، ودون نظرة دونية لأنفسهم.

حينها فقط ستأخذ بيدهم وتسير بهم نحو مستقبل مشرق، نرجوه ونرضاه.

عن الكاتب

عبير النحاس

كاتبة وروائية سورية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس