د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

الإجراءات التي يتعيّن القيام بها بحق المهاجرين التّونسيين الوافدين إلى الأراضي العثمانيّة.

(الأرشيف العثماني، وثيقة رقم DH. HMŞ 9/47 )

كشفت إحدى الوثائق، من بين مئات الوثائق المتعلّقة بالوجود التّونسي في الأراضي العثمانيّة أنّ السّلطات العثمانيّة أصدرت أوامرها بأن تتمّ على الفور تسوية أوضاع التّونسيين الذين انتقلوا إلى أراضيها بعد احتلال البلاد التّونسية عام 1881م واعتبارهم مواطنين عثمانيّين مثل باقي المواطنين الآخرين دون أدنى تمييز. وكانت وجهة التّونسيين الذين غادروا البلاد إما طرابلس الغرب، أي ليبيا حاليا أو إسطنبول أو بلاد الشّام. وقوبل التّونسيون في هذه المناطق بالتّرحيب، وشملت إجراءات استقبالهم توفير السّكن المناسب لهم ومبالغ ماليّة تمكّنهم من العيش الكريم في انتظار أن تنجلي غمامة الاحتلال ويعودون إلى بلادهم.

لم تعترف السّلطات العثمانيّة بمعاهدة "الحماية" التي عقدتها الحُكومة التّونسية بقيادة الوالي محمد الصادق بك مع المحتلّ الفرنسي، ولذلك فهي لم تنظر إلى التّونسيين الذين يفدون إلى أرضيها باعتبارهم أجانب وغرباء، بل كانت تنظر إليهم باعتبارهم من رعاياها ومواطنيها، وصدرت التّعليمات إلى موظفيها في كافة المناطق التّابعة لها بأن تُبذل الجُهود اللازمة من أجل تلبية حاجيات التّونسيين وعدم تركهم نهبًا للخصاصة والفقر والمذلّة. وقد رأينا ذلك في طرابلس الغرب على إثر دخول الجيوش الفرنسيّة إلى البلاد التونسيّة مباشرةً واندلاع حركات المقاومة ضدّ الجيش الفرنسي في الكثير من مناطق البلاد. وتبيّن إحدى الوثائق  أنّ أعداد التّونسيين الذين انتقلوا إلى طرابلس الغرب بلغ رُبع مليون تونسيّ منهم 50 ألف مسلّح، وكانوا من قبائل مختلفة. وقد استقبلوا من قبل أهالي طرابلس الغرب استقبال الإخوة، ورغم الضائقة المالية والاقتصاديّة التي كانت تعاني منها بلاد طرابلس الغرب إلاّ أنها لم تتبرم بضُيوفها وأحسنت وفادتهم وبقوا هناك إلى أن رجعوا إلى بلادهم بعد تراجُع المقاومة وسيطرة الجيوش الغازية.

والأمر نفسه بالنّسبة إلى التّونسيين الذين هاجروا إلى إسطنبول، فقد أثبتت الوثائق أن هؤلاء التّونسيين كانوا يُعاملون معاملة كريمة، ويلقون الدّعم المادي والمعنويّ سواء كانوا سياسيّين أو علماء أو مواطنين عاديّين. ولم يكن هؤلاء ليشعروا بالغربة أو العزلة لأن الحكومة استفادت من خبراتهم ووظفت كل واحد منهم في المكان الذي يليق به ويمكّنه من خدمة قضيّته وأمّته على النّحو المناسب. كانت الحكومة توفر لهؤلاء العلماء والسّياسيين السكن اللائق والراتب المجزي، وتسند إليهم الرّتب والنّياشين تشجيعًا لهم واعترافا بخدماتهم. وكان من بين هؤلاء المفكر ورجل السياسة خير الدّين باشا التونسي وأبناؤه، والعالم الكبير صالح الشّريف التّونسي والعالم إسماعيل الصفائحي ومحمد بيرم الخامس ومحمد السّنوسي وغيرهم كثير. وكان لهؤلاء الأعلام نشاط علمي ملحوظ من خلال التأليف وإلقاء المحاضرات وتعليم العلوم الإسلامية واللّغة العربية.   

ومن المناطق العثمانية الأخرى التي هاجر إليها التّونسيون منطقة بلاد الشّام، فقد انتقل إليها عدد من التّونسيين وجعلوا منها مركزًا لمناهضة الاستعمار الفرنسيّ سواء من خلال النشاط السّياسي أو النشاط العلمي المكثف. وقد صدرت التعليمات إلى السلطات العثمانية في بلاد الشام بأن يسمح للتّونسيين بشراء الأراضي والتملك هناك، لا فرق بينهم وبين غيرهم من المواطنين باستثناء أولئك الذين يقبلون بالدخول تحت الحماية الفرنسية فلا تشملهم هذه الإجراءات، بل يتم إبعادهم من الأراضي العثمانية وتجريدهم من الامتيازات التي يتمتع بها الرّعايا العثمانيّون. وفي هذا الخصوص صدر قرار تحت رقم 673 من إدارة المهاجرين التابعة لنظارة الخارجية العثمانية بتاريخ شهر ربيع الأول سنة 1330هـ /الموافق لشهر كانون الأول/ ديسمبر سنة 1914م يشرح بوضوح وضعية التّونسيين القادمين إلى "الممالك العثمانية" والإجراءات التي يتعيّن تطبيقها بحقهم.

وهذه الإجراءات المطبّقة بحقّ المهاجرين التّونسيين إلى المناطق العثمانية تجلنا نفكّر في الرّوح التي كانت تحرّك رجال الدّولة والإدارة في الدولة آنذاك، وكذلك تجعلنا نفكّر في عمق المشاعر الدينيّة والأخويّة التي تربط المسلمين بعضهم ببعض؛ كانت فكرة المواطنة أوسع ممّا هي عليه اليَوم، فالمواطن وطنه بلاد الإسلام ككلّ، ولم تكن أرضه مجرّد رقعة من الأرض تحدّها حدود ضيّقة ويتكلم أهلها بلغة معينة أو يتعاملون فيما بينهم بلهجة مختلفة.

كانت الدّولة تحفظ حقوق مواطنيها، وتنتصر للمظلوم منهم، وتهب لنجدته عند الملمّات والنّكبات. كان المواطن يشعر أن له سندًا وظهيرًا يحفظ كرامته وينتشله من المذلّة والخصاصة. ورغم الضعف الكبير الذي كانت تعيشه الدّولة العثمانيّة في بداية القرن العشرين فإنّها حاولت قدر استطاعتها نجدة أبنائها سواء كانوا في تونس أو في غيرها، لكن المؤامرات كانت أكبر من قدرتها على المجابهة. فقد اجتمع عليها الشّرق والغرب من أجل الإجهاز عليها، وتمزيقها وكسر الرّمز الذي كان يجتمع حوله المسلمون في كل مكان من العالم.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس