محمود عثمان - خاص ترك برس

تميزت السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية بسياسة خارجية منفتحة لعبت دورًا نشطًا وفاعلًا استمر حتى عام 2011، حيث لقيت سياسة "صفر مشاكل" التي انتهجتها تركيا في هذه الفترة قبولًا واسعًا في الأوساط الرسمية والشعبية على حد سواء. لكن ثورات الربيع العربي قلبت موازين القوى رأسًا على عقب، وعصفت بجميع توازنات المنطقة، وأدت إلى اضطراب كبير في أسس السياسة الإقليمية لتركيا، حيث تحول عمق تركيا الاستراتيجي إلى ساحة صراعات وحروب أهلية دامية، لتوضع تركيا على مفترق الطريق أمام خيارات صعبة ومعقدة، فإما أن تختار مصالحها الاقتصادية بأن تؤثر السلامة والابتعاد عن المشاكل كما هي حال تركيا القديمة، فتدير ظهرها للمبادئ والشعارات التي أعلنتها بصوت مرتفع، أو أن تقف إلى جانب ثورات الربيع العربي التي حركت المشاعر ودغدغت العواطف، بالرغم من كونها مجهولة التوجه والعاقبة والمصير...

تركيا رجحت المبدأ، واتخذت الموقف الإنساني رغم صعوبته وكلفته باهظة الثمن، لأنه يتماشى مع توجهات الشارع التركي، ويتفق مع مبادئ حزب العدالة والتنمية وعقيدة الرئيس رجب طيب أردوغان. لكن ذلك لم من وجود بعض الأصوات والشخصيات التي دعت إلى التريث وعدم الاندفاع، ويأتي في مقدمة هؤلاء الرئيس السابق عبد الله غُل. وربما ساعد حماس الأمريكان والأوروبيين ودعمهم النظري الظاهر لتطلعات الشعوب العربية المطالبة بالحرية والكرامة والخلاص من الدكتاتورية، في اندفاع القيادة التركية نحو اتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الحساس.

لم تصمد نظرية "صفر مشاكل" أمام التطورات المتسارعة والحروب الداخلية والصراعات الأهلية التي سببها تشبث الأنظمة الدكتاتورية بكراسي حكمها، ودخول إيران على خط الأزمة، مما حول إقليم الشرق الأوسط إلى "صفر استقرار" و"صفر هدوء"، فعجزت قوة تركيا الناعمة عن إحداث أي اختراقات أو تحقيق أي إنجازات مهمة في المنطقة المضطربة، وخصوصا بعد أن تحولت سورية إلى ساحة حرب إقليمية ودولية ساخنة دامية.

الأسباب والعوامل التي أدت إلى تراجع السياسة الخارجية التركية

أولا: أسباب بنوية إدارية:

ليس سرا أن هناك خللا وعجزا واضحا في كوادر وزارة الخارجية التركية المختصة بمنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، حيث يكاد يندر وجود خبراء مختصين، يملكون الخبرة والدراية الكافية بمنطقة الشرق الأوسط بملابساتها وتعقيداتها. وقد جرت العادة على تدارك هذا العجز باستقاء المعلومات من طرف ثالث غالبا ما يكون غربيا يعكس عقيدته ورؤاه. ولئن استطاع البرفسور أحمد داوود أوغلو سد الفراغ وتدارك النقص قدر الإمكان عندما كان سفيرًا خاصًا ثم وزير خارجية، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى سابق عهدها بعد أن أصبح رئيسا للوزراء.

ثانيًا: انقلاب الكيان الموازي وأحداث "غيزي بارك":

بعض القوى داخل تركيا ممن تضررت مصالحهم من صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، استغلت احتجاجات بعض منظمات المجتمع المدني على قطع أشجار من حديقة "غيزي بارك" في حزيران/ يونيو 2013 من أجل تحويلها إلى حالة احتجاج شعبي عارم أسوة بالربيع العربي، لكن تلك المحاولة باءت بالفشل، ثم أعقبتها محاولات انقلابية تولت تنفيذها جماعة فتح الله غولن الإسلامية! بتاريخ 15 و17 كانون الأول/ ديسمبر 2013 من خلال أذرعها الممتدة في مؤسسات الدولة المختلفة. لكن الحكومة استطاعت امتصاص صدمتها الأولى، ثم بدأت حرب تكسير عظام ضد هذه الجماعة ومؤسساتها.

رابعا: انقلاب حزب العمال الكردستاني وانسحابه من المفاوضات:

عقب تشكيل التحالف الدولي ضذ تنظيم داعش وجد حزب العمال الكردستاني الفرصة سانحة لكسب تأييد هذا القوة الدولية وتجييرها لصالحه، فقام بقلب الطاولة وتنكر للمصالحة الداخلية التي كان يجريها مع الدولة التركية، وبدل أن ينفذ بنود الاتفاق عمد إلى تخزين السلاح وتعزيز قواه في مناطق نفوذه في جنوب شرق تركيا. ثم استأنف عملياته العسكرية في تموز/ يوليو 2015 بعد إعلان بعض المدن والبلدات الصغيرة مناطق حكم ذاتي أسوة بالكانتونات التي أعلنها فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة صالح مسلم. لكن قوات الأمن التركية التي بدأت بالاعتماد على مصادرها الذاتية في السلاح والاستخبارات دخلت معه الحرب بطريقة لم يعهدها من قبل، فكبدته خسائر فادحة اضطرته للانسحاب والتراجع.

خامسًا: الاستحقاقات الانتخابية:

بدأت الانتخابات المحلية في آذار/ مارس 2014، ثم تبعها الانتخابات الرئاسية في آب/ أغسطس من العام نفسه، فالانتخابات البرلمانية في 7 حزيران/ يونيو 2015، ثم أخيرًا انتخابات الإعادة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه.

وقد شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية في 7 حزيران/ يونيو 2015 حالة إرباك أسالت لعاب قوى كثيرة في الداخل والخارج، حيث رأتها فرصة سانحة للانقضاض على حزب العادلة والتنمية. وهو ما دفع صانع القرار التركي إلى الانكفاء على الداخل وتقديم بعض التنازلات في السياسة الخارجية.

سادسا: إسقاط المقاتلة الروسية:

أدى إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، وما تلاه من تطورات متلاحقة وإجراءات روسية على المستويين العسكري والاستراتيجي في سورية والمنطقة، إلى خسارة تركية خسارة مزدوجة: الأولى عسكريًا واستراتيجيا حيث فقدت القدرة على الطيران فوق سورية والمبادرة في شمالها مما اضطرها للانكفاء لتجنب ردة فعل روسية عالية السقف، والثانية سياسية أمام واشنطن وحلف الناتو من خلال عودتها للتماهي مع مواقفهما فخسرت هامش الاستقلالية النسبي في سياستها الخارجية.

نجحت الدبلوماسية التركية لفترة ليست بالقصيرة في نهج سياسة مستقلة نوعا ما. لكن الضغوط الخارجية التي تعرضت لها أنقرة بسبب مواقفها وخصوصًا في قضايا المنطقة مثل سورية ومصر وفلسطين، وعدم التوصل إلى اتفاق نهائي مع إسرائيل بخصوص "مافي مرمرة"، كلها أسباب أدت إلى حالة من العزلة والانكفاء بسبب افتقارها لتحالفات قوية ومستدامة تستند عليها في سياساتها الإقليمية.

هناك  حاجة تركية ماسة للشراكات الإقليمية مع الدول الرئيسية في المنطقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية التي أخذت زمام المبادرة، وأحدثت تغييرات أساسية في أولوياتها الاستراتيجية، وبدأت هي الأخرى تتعرض إلى ضغوط مشابهة لتلك التي تتعرض لها تركيا، ثم مصر قاطرة العالم العربي، الدولة الكبيرة والقوة الاقليمية الأهم في المنطقة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس