د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

قبل كل شيء، لا بد من التذكير بأن العرب ليسوا أقل ذكاءً وصدقًا وعملًا من الأتراك، ولا الأتراك أكثر إخلاصًا ونباهة وفكرًا من العرب، لئلا يشعر العرب بالدونية وجلد الذات واليأس، وحتى لا يصاب الأتراك بالفوقية والتكبر والغرور.

كما لا يفوتنا التذكير أيضًا بأن التجربة التركية هي تجربة بشرية، وليست ملائيكية خالية من الأخطاء والنزعات الشخصية والتنافس والتزاحم، وليس كل مدح فيها هو تقديس لها، وفي ذات الوقت فليس كل انتقاد هو عداوة وخصام لها، فلكل تجربة سلبياتها وإيجابياتها وإخفاقاتها ونجاحاتها.

كثير من الإخوة العرب تأخذهم العاطفة وهم يناقشون التجربة التركية، ويطلقون عليها صفات ينفيها أصحاب المشروع أنفسهم منذ انطلاقة تجربتهم هذه، حتى صار يصح في بعض كتابنا العرب أنه "ملكي أكثر من الملك" نفسه.

ما حصل في رأيي كان زلزالًا، ولم يكن بالزلزال السهل البسيط كما يظن البعض، فليس بالضرورة أن تكون آثار الزلزال مدمرة حتى نحكم عليه بأنه زلزال، إذ قد تكون الأرضية صلبة وقوية وحصينة، تخفف وتمنع دمار وآثار هذا الزلزال، وقد يحصل العكس فتكون الأرض هشة ورخوة تطيح بكل ما فوقها لمجرد هزات بسيطة ومحن عارضة.

فالزلزال في اليابان مثلا لا يحدث دمارا كما يفعل شبيهه في بلاد غيرها...

ما حدث زلزالًا في عرف السياسة والتجارب الديمقراطية، فعندما يكون الحديث عن رئيس وزراء يحمل كل صفات النجاح والقيادة والعلم والقبول في الشرق والغرب، ويحظى حزبه باختيار نصف المصوتين في الانتخابات، ويشكل حكومته لتنجز ماوعدت به خلال حملتها الانتخابية ولما يمض على تشكيلها سوى خمسة شهور، ويتمكن من إخماد حركات التمرد ومحاولات تمزيق البلاد، ويصلي الجمعة في مدينة لم يطأها روؤساء المعارضة، ثم يأتي عزله من قبل الشخص الذي أصر على ترشيحه، فذلك ليس بالأمر العادي ولا الطبيعي، وهو مؤشر أكيد على اختلافات عميقة في الرؤى لم يستطع الرجلان حلها بطريقة أخرى، فكان "الاتفاق" على هذا الإخراج الجيد للحدث، فثمة خلافات موجودة، ومحاولة انكارها ومحاولة عدم رؤيتها هو تسطيح للأمر وإنكار للواقع ومحاولة لدفن الرأس بالتراب، وجود الخلاف شيء والحكمة في حله شيء لآخر. ولذلك جاء الاتفاق على هذا الإخراج ليمثل قمة المنطق والنضج السياسي، بل والحكمة والإخلاص.

لم يكن ترشيح داود أوغلو - ابتداء - خاليًا من اعتراضات واحتجاجات في أروقة حزب العدالة والتنمية الداخلية، لكن ترجيح الرجل الأول في الحزب له هو الذي جعل البقية يقبلون بالأمر ويتبنونه، وشخصيا لم أكن من المتفائلين كثيرًا بترشيح داود أوغلو ليخلف طيب أردوغان في بداية الأمر، كما إنني لم أكن متوقعًا هذا النجاح الباهر الذي حققه الرجل، فقد كنت أتوقع أن كفة نعمان كورتلموش هي الأرجح ليخلف أردوغان منذ البداية، ولا زلت أميل لهذه الشخصية وأرى أنها هي الشخصية الأمثل لمثل هذا الدور وهذه المرحلة، لكن قد يكون الدور المطلوب من رئيس الوزراء القادم لا يتوافق أيضًا مع البرفسور كورتلموش وشخصيته القيادية.

داود أوغلو الذي أشار لبعض مواقفه خلال خطبة وداعه، كانت جديرة بالوقوف عندها، وفيها دروس كثيرة للمعجبين بهذه التجربة التركية من العرب، قال الرجل مثلا، بأنه إلتحق بالحزب عندما كان العدالة والتنمية يعاني من خطر الإغلاق بقرار من المحكمة الدستورية حيث أنقذه صوت واحد حينها، وهذا درس لمن لا يزال من العرب ينتظر ليرى أين تميل الكفة بين ثورات الربيع العربي والثورات المضادة ليحدد موقفه وانتماءه… وهل لمثل هؤلاء أن يقودوا أمة...؟؟، هذا هو الدرس الأول.

داود أوغلو خدم - وبدون أي ضجيج - في الكثير من الوظائف، وتحمل المسؤوليات والمهام بدون طلب منه لأي منصب كما أوضح هو أيضًا، فبدأ مستشارًا ثم كبير للمستشارين ثم صانعًا للسياسة الخارجية ووزيرًا لها، وأخيرا، رئيسًا للحزب وللوزراء، وهذا هو الدرس الثاني، فالعطاء والخدمة والتأثير لا تتوقف على المنصب والصفة واللقب، وهنا درس لكثير من السوريين الذين غلبت عليهم الأنا فبات يضن حتى بالنصيحة والتوجيه، وربما بالنقد البناء أيضًا ما لم يكن في المقدمة، وبالواجهة، وصاحب الحقوق الحصرية في الفكرة والمشروع...!! فهل بمثل هؤلاء تنتصر ثورات وتقام دول...؟؟

الدرس الثالث ربما لم ينتبه له الكثيرون، وضاع بين السطور الكثيرة، عندما قال داود أوغلو إن "الشخص القوي هو الشخص المتصالح مع نفسه أولًا"... ولعمر الحق إنها لحكمة ذهبية، طالما رددناها نحن كثيرا منذ سنيين بدون أن تجد آذانًا صاغية لها، لكن صداها كان أقوى  عندما صدرت في هكذا موقف، وعلى لسان الحكيم داود أوغلو، ولعلها تترك أثرًا في نفوس من يحب هذه الشخصية.

فكم عانت ثورات الربيع العربي وتعاني من البعد عن هذه الحكمة، فكثير من الشخصيات السورية المعارضة - مثلا -  تجدها أكثر نصرة من جبهة النصرة مع النصرة، وأكثر أحرارا من الاحرار مع الأحرار، وأكثر إخوانًا مع الاخوان وأكثر علمانية مع العلمانيين وأكثر ديمقراطية مع الديمقراطيين وأكثر قومية وعرقية مع أصحاب هذه الدعوات... كم افتقدت الثورة السورية ولا تزال تفتقد لمن يعلن وبكل علنية وشفافية، وبكل جرأة وشجاعة عن رؤيته وخططه ومنهجه...

لم ادافع عن فكرة لم أؤمن بها ولم أتخلى لحظة واحدة عن الدفاع بكل ما أملكه من قوة عما أعتقد بصحته... لايمكن لأي انسان أن ينجح ولا يستطيع أن يقنع أحدًا بأي فكرة، ما لم يؤمن بها هو أولا... لذلك لم يكن له - ورغم محبته وتقديره وتابعيته لحزبه وقائده-  أن يقوم بما لا يعتقده... وهذا درس خامس يحتاج لشرح مطول... وهو دليل على عمق الاختلاف بين المعلم والبروفيسور... ويبقى صحة هذا التصرف من خطئه محل اختلاف يحتاج لنقاش وتمحيص.

الدرس قبل الأخير، أن الخلاف في الرأي لا يعني الخصام والعداوة، فرغم الجرح الذي أصاب داود أوغلو وآلمه من هذا التصرف من قبل زملائه ،وشعوره بـ"الخذلان" بسبب طريقة سحب الصلاحيات منه عبر التوقيع على مذكرة القرار، واعتبار هذا دليلًا على عدم الوضوح والشفافية وعدم الثقة به، لكنه اعتبر أن شرف رئيس الجمهورية شرفه، وأنه لن يتكلم بكلمة تخدش أو تضر بهذه العلاقة بينهما، لأنها علاقة أخوة ومبدأ قبل أن تكون علاقة مصلحة وحزبية، ولست أدري ماذا سيقول أحدنا لو نظر الى العلاقات بين أبناء الثورات العربية، ومن ينشدون التحرر والانعتاق، بل وبين أبناء من يدعي الانتماء لـ(الإسلاميين)... عندها ترى العجب العجاب مما يدمي القلوب... فستجد الجرح والطعن واللمز والغمز وكل ما هو منهي عنه في شرعنا الحنيف الذي ندعي الدفاع عنه… فهل يتحقق النصر والتحرر على أيادي مثل هؤلاء...؟؟

الدرس الأخير وإن كانت لاتزال كثيرة... وهو الأهم برأيي.

فبرغم النجاح الذي حققه داود أوغلو على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية، ورغم اختلافه على أمور مع معلمه الأول. ورغم أن الوضع السياسي في تركيا والأصوات التي تنتظر فرصة للنيل من العدالة والتنمية والأصوات المعارضة لرئيس الجمهورية، ووضع بقية الأحزاب من الحركة القومية والشعب الجمهوري والسعادة والمستقلين، كل هذا الوضع الذي يغري البعض بالمجازفة لعدم الاستجابة لطلب التنحية، ومحاولة تشكيل قوة جديدة ستجد حتما التأييد والدعم من بعض الاصوات من داخل الحزب و البرلمان وخارجه، كما ستجد حتما دعما من كثير من الدول الغربية التي تريد تحجيم تركيا في هذا المستوى، كل هذه المغريات لم تكن لتحرف وجهة داود أوغلو الذي  آثر المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وآثر الوطن على الأنا، ورجح مصلحة المنطقة على أي هوى، عندما رأى أن هذا سيدمر البلاد والحزب والأمة والمنطقة برمتها...

داود أوغلو الذي قال بأنه سيكون أقوى من نفسه ولن يسمح لها بمجرد التفكير بأي  عمل يضر بالحزب الذي ينتمي اليه، وأنه سيظل جنديًا وفيًا له، وسيكرس جهده للاهتمام بشباب الحزب بعد هذه المرحلة… أثبت أنه يحمي حزبه وبلده ومنطقته حتى أثناء انسحابه واستقالته...

هذا هو الدرس الأخير الذي يجب أن يتوقف عنده الكثيرين من المعجبين بالتجربة التركية من إسلاميين وقادة كتائب وأحزاب وجماعات، بعدما قتلتها الأنـــــــــــــــــــــا المرضية ونخرت جسدها المصلحة الحزبية الضيقة على حساب مصلحة الأمة والثورة والوطن والأهل… والتي لا تزال تحمل أفكار حزب البعث وفكر الأسد… فأنا أو الدمار تجده الفكر السائد في كثير من هذه المكونات والاحزاب والجماعات...

فهل من مراجع لنفسه وفكره ومنهجه وحزبه وجماعته وفريقه...؟

الفاروق عمر بن الخطاب عزل خالد سيف الله المسلول وهو في عز قوته وذروة انتصاراته...

فأجابه خالد بأنه سيظل جنديًا في جيش الصحابة تحت قيادة أي شخص يختاره الخليفة عمر...

واليوم يقيل أردوغان داود أوغلو في وهو في قمة نجاحاته وذروة إنجازاته...

فيرد عليه بأنه سيظل عضوا بالحزب ويهتم بالشباب مستقبل الأمة...

الأفعال لا الأقوال هو ما يميز التجربة التركية...

أما نحن فالتنظير والأقوال وعند الأفعال ترى العجب العجاب...

درسنا اليوم داود أوغلو...

ودرسنا في الغد رجب طيب أردوغان...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس