مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

إن المزوّرين يبحثون عن العيوب ويُلقون عليها الضّوء لتكبر ويُخفون الفضائل والمكارم والحسنات حتى تبدو صغيرة ضئيلة، ثم يأتي الباحث الجامعي أو الدّارس في مقاعد الدّراسة الإعدادية والثانوية فلا يجد إلا كلّ غثّ وهزيل. وهذا بالفعل ما حدث طوال الأعوام الأولى التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية التركية في عام 1924م. فقد ظل مدرّسوا التّاريخ لوقت طويل في المدارس والجامعات في تُركيا يركّزون على أنّ العهد الجمهوري كان عهدًا مُشرقًا زاهرًا بينما كان العهد العثمانيّ عهدًا مظلمًا ورمزًا للجهل والتخلّف في جميع ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والفكريّة وغيرها.

 كان إلغاء الخلافة العثمانية حدثا كبيرًا واستثنائيا بكل المقاييس، فقد طوى حقبة استمرت لأكثر من 600 عام حكم خلالها آل عثمان وامتدّت دولتهم في القارات الثلاث الآسوية والأوروبية والأفريقية. ولأول مرة يتقطع شمل المسلمين ويتمزقون إلى دويلات صغيرة مُتناثرة لا يربط بينها سوى رابط معنويّ دينيّ لا يقوى على صدّ العواصف الهوجاء، وأصبحت هذه الدّول مطمعًا لكل طامع ونهبًا للقوى العالمية الكبرى التي تعتمد على القوة العسكرية المتطوّرة والإكراه من أجل بسط سلطانها وسيطرتها ونهب خيرات البلاد الإسلامية.

وكان الحدث الاستثنائي الآخر في هذه المرحلة هو ما سمّي بـ"الانقلاب الحرفي" أو ثورة الحروف في تركيا، فبين ليلة وضُحاها وجد الأتراك أنفسهم مُجبرين على استعمال الأحرف اللاّتينية وترك ما تعوّدوا عليه من كتابة بالأحرف العربية لمدة قرون متطاولة. فإذا كان إلغاء الخلافة قطع صلة المسلمين ببعضهم البعض معنويّا، فقد كان إلغاء الحروف العربية واستعمال اللاّتينية محلّها قطعًا لصلة الأتراك المسلمين بتاريخهم وبمصادر هذا التّاريخ المُدوّن بالأحرف العربيّة.

بين ليلة وضحاها أصبح الشّعب لا يعرف حقيقة تاريخه، ولا يمكنه الرّجوع إلى المدوّنات الضّخمة التي تركها الأجداد السّابقون، وأصبح التّعليم في المدارس والجامعات يصبّ في اتجاه واحد، هو تشويه الماضي جملة وتفصيلاً، وإلصاق كل ما هو سيء ومَعيب ومنفّر برجالات العهود السابقة، ووصفهم بالجهل والاستبداد والخيانة والانحطاط، وكل الصفات الذميمة التي تسقطهم في عيون الشعب وتنال من سمعتهم. وامتلأت الصحف والمجلات في العهد الأول للجمهورية التركية بالأخبار التي تشوّه سمعة السلطان في اسطنبول وكذلك سمعة الدولة العثمانية بصفة عامة.

والغريب أن أغلب الصّحف التي كانت تشن حملات شعواء على ماضي الشعب التركي ورموزه التاريخية كانت مموّلة من قبل أثرياء من اليهود. وقد اعتمدت هذه الصحف المحلية وكذلك الصحف الأوروبية التي سارت في هذا الرّكب على عدة كتب معادية لحكم آل ثمان، ومن أهم هذه الكتب كتاب ألّفه عثمان نوري أحد أنصار "الاتّحاد والترقي". وهذا الكتاب تمّ تأليفه بتعليمات من هذا الحزب قبل إعلان الجمهورية بقليل، ويعتبر الحزب النواة الأولى لحزب الشّعب الجمهوري الذي حكم تركيا لفرات طويلة فيما بعد.

ادعى المؤلف أنّ السلطان عبد الحميد كان تاركا للصلاة، وأنه كان ينشغل في أداء أعماله ويتظاهر بالصلاة أمام الناس. ويمكننا أن ننقل هذه الفقرة من كتابه المذكور لنتبيّن حجم التّشويه الذي كان يُشن ضدّ السلطان عبد الحميد الثاني المعروف بورعه وتقواه:"عندما كانت صلاة الجمعة تقام كان اثنان من الحرس ينتظران أمام المدخل السلطاني، وعندما يدخل السلطان داخل مقصورته الخاصة يجلس إلى مائدته داخل المسجد ويشعل سيجارته ويبدأ في قراءة التقارير الواردة من عملائه السريين بينما الجماعة تؤدي الصلاة. إذن كان السلطان يستغل فرصة انشغال الناس بالصلاة لأداء أعماله، وربما كان يخشى أن يصاب بالسوء أثناء السجود"( فترة حكم عبد الحميد: حياته الخاصة والسياسية، استانبول 1327، المجلد الثاني، ص. 493).

مثل هذا الافتراء يثير الدهشة لأن رجلا مثل السلطان عبد الحميد الثاني حسب قول بديع الزمان النورسي وغيره من العلماء من أتقى سلاطين آل عثمان وأشدهم ورعا، فهل يعقل أن يفعل ذلك أثناء الصلاة؟!!! ثم إن هذا الكاتب اعتبر محاولة اغتيال السلطان عبد الحميد من قبل عصابة من الأرمن عملا بطوليا يجب أن يشكروا عليه. ومعلوم أن عبد الحميد وقف للأرمن بالمرصاد وكشف مؤامراتهم لتخريب الدولة، وهم الذين خططوا لاغتياله بقنبلة في الحادث سنة 1905م في ساحة مسجد يلدز، يقول الكاتب في لغة مليئة بالتشفي والحقد: "أخيرا ظهرت الحقيقة بكل تفاصيلها، فقد تبين أن العملية البطولية لاغتيال الطاغية عبد الحميد قام بها أبطال شجعان من مواطنينا الأرمن لإنقاذ أمتنا من ظلمه وطغيانه، وقد تم إعداد القنبلة من قبل جوريس ورفاقه من الأرمن. وقد صادفوا مشكلات كبيرة أثناء إعدادهم لها، واختاروا يوم الجمعة أثناء قدوم عربات تحمل زوارا للسلطان.." (عثمان نوري، المصدر السابق، المجلد الثالث، ص. 1135). 

هذه السّطور التي تقطُر حقدًا لا يُمكن أن يكتبها حتّى الأرمن أنفسهم والذين كانوا يُعدّون مواطنين عثمانيّين، ولكن يبدو أنّ الأطماع السّياسية والمطامح الشّخصية أحيانًا تجعل الإنسان عدوّا لدودًا حتى لنفسه ولتاريخه وأمّته. وقد سار على نهج عثمان نوري كتّاب ومؤلفون وصحفيون كثيرون، سخروا أقلامهم للطعن في ما أنجزه الأجداد السابقون طوال قرون ودأبوا بالمقابل على تمجيد العهد الجمهوري واعتباره ميلادا جديدا للشعب الترّكي بعيدا عن "ظلمات الماضي".

غير أن الحقائق المدفونة لا يمكن أن تبقى طيّ الكتمان على الدوام، ولا يمكن للتّزوير والتشويه أن يُصبح حقيقة، فبعد عقود ظهرت اليوم أجيال جديدة من الباحثين، تمكنت من امتلاك أدوات البحث العلمي، وأمسكت بمفاتيح المعرفة الموضوعيّة واطلعت على الوثائق التي تكشف الحقائق كما هي دون تحريف، وبدأ النّاس يتخلصون شيئا فشيئا من إرث ثقيل مليء بالافتراءات، وأصبحوا بفضل هذه الحقائق الجديدة أكثر اعتزاز بماضيهم المجيد وأقلّ نفورًا منه وأكثر إقبالا على معرفته بعمق أكبر.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس