محمود علوش - خاص ترك برس

للوهلة الأولى لدى المشاهدة على التلفاز دبابات تتحرك للسيطرة على منشآت عامّة في إسطنبول وأنقرة ولدى سماع تحليق المقاتلات الحربية في سماء المدينتين، لا يُمكن التكهّن بأي سيناريو سيحدث في حال نجاح التمرّد العسكري سوى أن البلاد قاب قوسين أو أدنى من الدخول في صراع لن يكون أقلّ دمويّة عن الحروب المشتعلة في الدول الشرق أوسطية المحيطة بتركيا، كسوريا والعراق. هذا الاستنتاج ينبع بالأساس من تجارب مريرة مرّت بها بلاد الأناضول في المراحل التي أعقبت انقلابات الجيش خلال العقود الماضية، زد عليها عاملًا خارجيًا خطيرًا للغاية يتمثّل بالانعكاسات الحتمية للنيران المشتعلة في دول الجوار على تركيا، فيما لو انضمت تركيا- لا قدّر الله - إلى لائحة الدول المنهارة والممزّقة.

الأتراك لديهم ذكريات حزينة مع الانقلابات العسكرية السابقة، وقلّما تجد تركيًا لا يشعر بالمرارة عندما تسأله عن رأيه في أرشيف المؤسسة العسكرية في فترات تدخّلها بالحياة السياسية. ربما ذلك ما يفسّر إلى حد كبير مسارعة الشعب التركي إلى إسقاط الانقلاب مع أحزابه السياسية التي تختلف في كل شيء وتجمع على رفض المساس بالنظام الدستوري. وهذا ما بدا جليًا في محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو عندما سارعت تلك الأحزاب مع قاعدتها الجماهيرية إلى اتخاذ موقف واحد بغض النظر عن النتائج الحتمية التي ستفرزها هكذا خطوة على صعيد تقوية شرعية أردوغان في الشارع. لكنّ ما كان يعنيها بالدرجة الأولى هو الحفاظ على مكتسبات التجربة الديمقراطية خلال العقدين الأخيرين وليست المكاسب التي ستعود على الرئيس وحزب العدالة والتنمية الحاكم بعد القضاء على التمرد العسكري.

يُحسب لأحزاب المعارضة التقليدية كحزبي الشعب الجمهوري العلماني والحركة القومية الروح الوطنية التي ظهرت بها ليلة 15 تموز وسيجلها التاريخ، إذا ليس من السهل أن تدعو أنصارك إلى النزول للشوارع لدعم الشرعية ورمزها أردوغان الذي كان قبل الانقلاب بساعات خصمك اللدود. هذا الأمر يستحيل حدوثه في العالم العربي. فالأحزاب المعارضة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر على سبيل المثال، سارعت إلى دعم انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح السيسي على مرسي عام 2013، رغم أنّها عانت الأمرّين من ممارسات السيسي بعد وصوله إلى السلطة. أغلب الظن أن عدداً لا يستهان به من الشخصيات المصرية نادمة الآن على ما وصلت إليه أحوال البلاد اليوم، ولو كانت تدرك خطورة الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية حقيقة لفضّلت البقاء إلى الآن في موقع المعارض لجماعة الإخوان.

على عكس الحالة المصرية التي يكاد يكون لديها تجربة انقلاب واحدة على وضعية ديمقراطية نشأت بفعل صناديق الاقتراع، فإن التجربة التركية زاخرة في هذا المجال. ففي عام 1960، قادت مجموعة من الضباط انقلابًا على حكومة منتخبة بقيادة حزب الديمقراطية نتج عنه اضطرابات كبيرة. وكذلك الحال في انقلاب عامي 1971 و 1980 وما عُرف بالانقلاب الأبيض على حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان في عام 1997. كل هذه الانقلابات كان لها تأثير سلبي للغاية على المجتمع التركي وعلى مسار التحولات الديمقراطية الحديثة الولادة في هذه الدولة. رغم ذلك، شهد مطلع الألفية الثانية نوعاً من الاستقرار السياسي بعد الزلزال الذي أحدثه فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية. وكان قائمًا على مبدأ التداول السلمي للسلطة.

رغم أنّ أيًّا من الأحزاب السياسية الأخرى لم تستطع الانفراد بالسلطة أو حتّى المشاركة فيها بعد ذلك التاريخ. وهذا بدوره يعود للنجاحات الاقتصادية الكبرى التي حققها أردوغان وليس لقصور النظام السياسي القائم بالفعل على التعددية الحزبية.

إحباط انقلاب 15 تموز، كان بلا شك خبرًا مفرحًا للديمقراطية في تركيا، ولو أن العكس حصل، لكان الوضع اليوم مشابهًا لما حدث تماماً بعد انقلاب 1960، حين أعدم الجيش رئيس الوزراء حينها عدنان مندريس، ولكان أردوغان ينتظره نفس المصير. وإحباط هذا الانقلاب هو خبر مفرح أيضًا للمؤسسة العسكرية بحد ذاتها، وقد جنّبها عواقب التدخل مجددًا في الحياة السياسية وأبعدها عن فساد السياسة. والأهم أنّه شكّل لها فرصة لتنقية نفسها من الجنرالات الطامعين بالسلطة، والمستعدين لفعل أي شيئ يوصلهم إلى مبتاغهم ولو أزهقوا أرواح شعبهم ودمّروا كل إنجازات تركيا الحديثة، بقدرات عسكرية تُشكل مرتكزًا هامًا في حلف شمال الأطلسي الناتو، وحياة سياسية تنافس الديمقراطيات الغربية رغم بعض عللها، واقتصاد يضاهي اقتصادات الدول العشرين الكبرى، ومكانة جغرافية تفصل بين عالم متخبط بالحروب والصراعات وآخر ينعم بالأمن والسلام، ونفوذ خارجي لا يمكن تجاهله ولا التقليل من شأنه في ملفّات حساسة لا تزال عصيّة على الحل من دون الأخذ في الحسبان مصالح تركيا.

لو أن الجنرالات الذين وقعوا في فخ مطامع فتح الله غولن بالسلطة أدركوا حجم المكاسب التي حقّقها أردوغان من وراء تمرّدهم، لما أقدموا على فعلتهم. يكفي أن تنظر إلى الحشود الغفيرة التي لا تزال ترابط في ميادين البلاد وهي تحمل صور الرئيس. وأن تشاهد زعيمي حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية وهم يلبون دعوة أردوغان إلى الاجتماع به في المجمع الرئاسي بأنقرة، ويتفقون معه على ضرورة وضع دستور مدني جديد يطيح بالدستور الحالي الذي وضعه الجيش بعدما كانوا في موقع المعارض الشرس لتغيير الدستور بالطريقة التي يريدها الحزب الحاكم. ويكفي أن تتابع المسؤولين الدوليين وهم يتسابقون في كل مؤتمر صحفي على إطلاق التصريحات الداعمة لحكومة حزب العدالة والتنمية المنتخبة لتعرف مدى النصر الذي حقّقه الرئيس رجب طيب أردوغان.

كسب رجل تركيا الأول ليس لأنه أحبط مؤامرة عليه فحسب، بل للوضعية التصالحية التي نجح في إضفائها على المشهد التركي بعد 15 تموز. من المهم متابعة ما إذا كانت هذه الوضعية سيطول أمدها وأن لا تقتصر على مرحلة مواجهة الانقلاب. ففي حال استطاع الحفاظ عليها لتمرير مشروع تعديل الدستور، فعندها سيحقق نصراً كبيراً لن يعود بالنفع على طموحه الشخصي فحسب بل على مستوى النظام السياسي ككل. تركيا اليوم في أمسّ الحاجة إلى دستور مدني جديد، ومن دونه، لن تتمكن البلاد من تحقيق قفزة نوعية في ديمقراطيتها.

عن الكاتب

محمود علوش

صحفي لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس