د. حسن العزاوي - خاص ترك برس

ما فتئت وسائل الإعلام المناوئة للخط التحرري لتركيا، دولة وشعبا، تنهل من سجلات مرحلة ما قبل السياسة الراشدة التي انتهجها ابن الشعب رجب طيب أردوغان. تلك المرحلة كانت تعرف بحرص الجيش على انتزاع السلطة للانفراد بالامتيازات الداخلية التي كانت محدودة آنذاك، نظرا للوضع الاقتصادي والاجتماعي لتركيا كدولة من العالم الثالث.

وكذلك "للظفر بالجاه والحظوة" من طرف المحرض والداعم الأجنبي الذي كان يخطط لتركيا أن تبقى قوة عسكرية طيعة متى ما وأينما شاء حركها.

فهذه، على سبيل المثال، صحيفة كريستيان ساينس مونيتور تتوقع أو بالأحرى تدعو إلى الفرقة والتناحر بقولها إن "الإهانات التي لحقت بأفراد الجيش من الشرطة والمدنيين لن تمر دون تأثير على الجيش". قولة يمكن اعتبارها تحيينا يائسا لبعض أهداف المخطط الانقلابي الدموي الفاشل الرامية، كما أصبح معلوما، إلى "توريط الجيش والشرطة في اشتباك" يخلق مناخا للتدخل الخارجي.

فهل بقي لتلك القولة البالية ومثيلاتها من أثر تحريضي على من يعايشون نهضة تركيا وتقدمها من العسكريين؟

إن ذلك الوتر الذي كان يعزف عليه أصحاب المصالح، من خارج تركيا، لم يعد يطرب المعاصرين من أفراد الجيش لتلكم النهضة المباركة، نظرا لما أحدثته هذه الأخيرة عندهم من تغيرات مفاهيمية بخصوص حاضر البلاد ومستقبلها. وذلك لاعتبارين اثنين على الأقل:

أولا: تعميم الرخاء ونخوة الانتساب إلى تركيا إن التطور الاقتصادي والمالي، الذي حققته تركيا الجديدة، انعكس بالإيجاب على كل القطاعات الاجتماعية. فارتفع الدخل الفردي، وزادت فرص الشغل، وتوفرت الخدمات الصحية، وتنوعت المواد الاستهلاكية المحلية، وزادت جاذبية التعليم في كل مستوياته، وتحسن تصنيف الجامعات وكما أن أسهم الدولة التركية ارتفعت في أعين الإعلام الدولي، وعلا مقامها في المحافل الدولية عموما وفي منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا على الخصوص.

ومن مؤشرات القوة العسكرية تحديدا، أن الجيش التركي أصبح يحتل المرتبة العاشرة عالميا سنة 2015، والمرتبة الأولى على المستوى الإقليمي. فمن شأن هذا وذاك أن يحدث لدى كل عسكري نزوعا إلى إعادة النظر في تقييماته للأمور.

وهكذا، فبصفته أبا لأبناء يوفر لهم المجتمع، كما لغيرهم، كل حظوظ الترقي؛ وبصفته فردا من عائلة تشملها آثار الازدهار؛ وبصفته عسكريا في جيش مصنف في الرتب الأولى عالميا؛ وأخيرا بصفته مواطنا تركيا أصبح لوطنه ذكر حسن ومستقبل واعد، فإن أي تفكير سليم يؤدي إلى جعل المصلحة الخاصة جزءا من المصلحة العامة، ومن ثم الإيمان بالحرص على استقرار البلاد وسلمية انتقال الحكم تبعا للقواعد الديمقراطية التي تستند إلى قرار الشعب من خلال صناديق الاقتراع. 

ولعل هذا بالضبط هو ما وقع عندما رفضت الغالبية العظمى من الجيش الانخراط في مؤامرة الطغمة الانقلابية.

ثانيا: حسابات الانقلاب إيديولوجية ضيقة بناء على ما سبق، فإن انقلابيي 15 تموز/ يوليو كانوا يشكلون استثناء فلفظهم الجيش الراشد ورفض صنيعتهم. هذا الاستثناء جاء من حيث كونهم تحركوا بدوافع إيديولوجية لا تمت للمصالح العسكرية الراهنة بصلة. بل وتتعارض مع التوجه العام الذي أصبح سائدا في مرحلة النهضة التركية، حيث تداخلت مصالح العسكريين بمصالح المدنيين فتقاربت العقول والقلوب والأجسام. ومن هنا أصبح الانقلابيون نشازا، وبزاتهم مزورة، لهذا فإن ما تعرضوا له - وكان في إطار القانون-  لا يعني القوات العسكرية الحقيقية في شيئ، وبالتالي فلا داعي للتحيز لمن لا يتقاطع مع مصالحها ولا ينتسب إليها في الواقع. بل ستعتبره تطهيرا لصفوفها ممن أصابهم العمى الإيديولوجي فلم يبصروا النعم، ولم يقدروا عظمة التحولات التي شملت تركيا الجديدة.

عن الكاتب

د. حسن العزاوي

كاتب سياسي مغربي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس