محمود عثمان - خاص ترك برس

شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نقطة تحول تاريخية، ليس في مسيرة العلاقات بين تركيا وروسيا فحسب، بل على صعيد بناء التوازنات الاستراتيجية في أوروبا، ومنطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان أيضا. من هنا كان أنظار الغرب شاخصة نحو نتائج هذه القمة، وما ستتمخص عنه من مخرجات وخصوصًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

وكما كان متوقعا فقد أكد الطرفان التركي والروسي عن عزمهما إعادة العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل التجاري بينهما إلى سابق عهده قبل إسقاط الطائرة الروسية، وتم اعتماد سلسلة من الإجراءات الكفيلة بعودة التجارة بين البلدين إلى مستوها القديم كخطوة أولى، ثم اتخاذ الخطوات الكفيلة بمضاعفة التبادل التجاري بين البلدين إلى مستوى مائة مليار دولار.

بالنظر إلى اللغة العدائية التي استعملها الطرفان إبان إسقاط الطائرة الروسية، وخصوصا السياسة الهجومية التي انتهجها الروس، الذين لم تسقط لهم طائرة منذ الحرب العالمية الثانية، فقد توقع كثير من المراقبين أن يشكل هذا الموضوع نقطة حوار وعتاب يقوم به الروس. لكن الطرف الروسي لم يطرح موضوع إسقاط الطائرة إطلاقًا. بل شرح الرئيس بوتين متابعته للمحاولة الانقلابية الفاشلة لحظة بلحظة، وأنه اطمأن إلى فشلها عندما ظهر الرئيس أردوغان ودعا الشعب للنزول للشارع، حينها قال بوتين لمن حوله انتهى الأمر، أي فشل الانقلاب، ثم بادر إلى الاتصال بالرئيس أردوغان للاطمئنان عليه، وفعلا كان الرئيس بوتين من أوائل من اتصل بالرئيس أردوغان لتهنئته بفشل الانقلاب، بينما تريث كثيرون وفي مقدمتهم الأمريكان.

واضح أن أجندة كلا الطرفين كانت زاخرة بمواضيع وملفات استراتيجية أكثر حساسية وأكثر أهمية، نذكر منها:

أولا: الملف السوري

بحسب المعلن عنه، فقد تم بحث القضية السورية بشكل واسع ومفصل، وتم التوصل إلى نقاط توافق بين الطرفين على قدر كبير من الأهمية، يأتي في مقدمتها الاتفاق على وحدة التراب السوري، وتحييد المدنيين السوريين والعمل على حمايتهم، والتشاور والتنسيق بين الطرفين من أجل تحقيق ذلك من ناحية، والحيلولة دون وقوع حوادث على شاكلة إسقاط الطائرة الروسية من ناحية أخرى.

لهذا الغرض تحديدًا، تم تشكيل لجنة مشتركة تضم ثلاثة اختصاصات، دبلوماسية وعسكرية واستخباراتية... وبالفعل فقد توجه أعضاء هذه اللجنة من الطرف التركي الذي ضم رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، ودبلوماسيين من الخارجية التركية بالإضافة إلى ضباط من الجيش التركي.

توجه هذه الهيئة اليوم – الأربعاء - على الفور إلى مدينة بطرسبرغ، يدل دلالة واضحة على حجم اهتمام الطرفين بالمسألة السورية، وعزمهما على التشاور والتنسيق، والرغبة في لعب دور رئيسي مشترك في حل الأزمة السورية، تجلى ذلك في تعبير الطرف الروسي عن رغبته في إشراك تركيا في المباحثات التي تجري مع الأمريكان فيما يتعلق بحل الأزمة السورية.

ثانيًا: ملف أوكرانيا

لا شك أن التدخل الروسي في اوكرانيا قد خلق وضعا بالغ التعقيد والإشكال بالنسبة لتركيا، التي اتخذت موقفا رافضا لاحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو موقف يتساوق مع موقف الأمريكان والأوروبيين وحلف الناتو، لكن رغم ذلك فقد نأت تركيا بنفسها عن تطبيق العقوبات التي فرضها الأمريكان والأوروبيون على روسيا بسبب احتلالها لشبه جزيرة القرم، وخصوصا فيما يتعلق بجانب العقوبات الاقتصادية.

ثالثًا: ملف النزاع بين أذربيجان وأرمينية

قضية ساخنة أخرى تم تناولها على طاولة المباحثات بين الطرفين التركي والروسي، هي النزاع بين كل من أذربيجان وأرمينية على منطقة قاراباخ، وتعتبر أذربيجان الحليف الأقوى والأقرب لتركيا، حيث تربط البلدين صلات قربى عرقية وثقافية، حتى يطلق عليهما بلد واحد بعلمين. بينما ترتبط أرمينية باتفاقية دفاع مشترك مع روسيا التي تحتفظ بقاعدة عسكرية ضخمة فيها.

وبحسب إبراهيم كالن، الناطق باسم الرئاسة التركية، فقد تم الاتفاق بين الطرفين التركي والروسي على العمل على تقليل حدة التوتر بين أذربيجان وأرمينية من جهة، واتخاذ بعض الخطوات التي من شأنها بناء الثقة، والتحول نحو حل الأزمة، حيث تعاني أرمينيا من أزمة اقتصادية خانقة بسبب إغلاق حدودها مع تركيا، التي تشترط عليها إعادة الأراضي التي احتلتها من أذربيجان.

وقد شكل توقيت زيارة الرئيس الأرميني إلى روسيا غدًا الخميس، أي بعد يوم واحد فقط من زيارة أردوغان لها، إشارة واضحة على توصل الأطراف إلى تفاهمات على فدر كبير من الأهمية.

لماذا أبدى الغرب امتعاضه من زيارة أردوغان لروسيا؟

لم تخف الصحف الغربية دهشتها بل وامتعاضها من زيارة الرئيس أردوغان لروسيا، ما يدل على حالة من عدم الرضى لدى الغرب من التقارب التركي الروسي، خصوصا وأنه يأتي في وقت تشهد فيه العلاقات التركية الأمريكية أسوأ مراحلها، على خلفية موقف الأمريكان من المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا. فبينما سارع بوتين إلى الاتصال بأردوغان بعد ساعات قليلة من المحاولة الانقلابية، تريث الأمريكان والأوروبيون كثيرًا، ثم جاءت تصريحاتهم مقتضبة وغير واضحة.

الطرف التركي يسجل على الأمريكان عدة مواقف لا يمكن تسميتها بالصديقة، منها على سبيل المثال لا الحصر، سكوت الأمريكان وعدم إدانتهم للانقلاب منذ اللحظات الأولى، وعدم تعاونهم في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية بالرغم من وجود أدلة قوية تشير إلى علم المخابرات الأمريكية بالمحاولة الانقلابية، ولعب قاعدة "إنجيرليك" دورا محوريًا في عملية الانقلاب، ووجود أحد أهم رجال المخابرات الأمريكية في جزيرة "بيوك أضا" التي تقطنها الأقلية اليهودية، وقيامه باتصالات مع بعض الشخصيات المناوئة للحكومة، ثم تصريحات بعض المسؤولين العسكريين الأمريكان التي فهم منها أنهم آسفون وقلقون من فشل المحاولة الانقلابية!.

هذا بالإضافة إلى تملص الأمريكان من تطبيق اتفاقية تبادل المجرمين، وتسليم فتح الله غولن المتهم الأول بتدبير المحاولة الانقلابية، وتذرعهم بحجج واهية غير مقنعة.

المواقف الأوروبية لم تكن بعيدة ولا مختلفة عن الموقف الأمريكي... الإندبندت كتبت: "السلطان ذهب إلى قصر القيصر" في عبارة لا خلو من الاستخفاف... أما الصحف الألمانية فقد كانت الأكثر شراسة، فقد كتبت "ديرشبيغل" عن وجوب إعادة النظر في عضوية تركيا في حلف الناتو، إن هي بنت علاقات استراتيجية مع روسيا.

واضح أن لعب تركيا سياسة التوازنات الاستراتيجية، والتفاف الشعب التركي نحو الرئيس أردوغان تحديدًا، في مشهد أعاد للأذهان بعض الصور التاريخية التي لا تروق للغرب، ثم موقف أحزاب المعارضة الواضح الصريح الرافض للانقلاب، وبلوغ الروح الوطنية إلى سقفها الأعلى، وغيرها... أسباب أرقت مضاجع كثيرين في الغرب، ممن لا يزالون مصرين على رؤية تركيا، بلد الانقلابات والديمقراطية المنقوصة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس