د. وسام الدين العكلة - خاص ترك برس

بالرغم من تأكيد جميع القادة الأتراك على تصميم بلادهم على الاستمرار بعملية "درع الفرات" شمال سوريا حتى تحقيق كامل أهدافها في ضمان أمن الحدود وإفشال خطط تقسيم سوريا إلى دويلات بذريعة الفيدرالية وغيرها من المشاريع الانفصالية، وتطهير كامل منطقة غرب الفرات من كافة التنظيمات الإرهابية بطول 90 كم تمتد من جرابلس شرقًا وحتى اعزاز غربًا، وبعمق يصل إلى 40 كم، وهي البقعة الجغرافية التي تطمح أنقرة إلى تحويلها لمنطقة آمنة تساعد في إيواء اللاجئين الهاربين من جحيم البراميل المتفجرة والقنابل العنقودية التي تقذف حممها طائرات الأسد وداعميه على اختلاف أنواعهم وجنسياتهم، إلا أن الكثير من المراقبين يرون أن هذه العملية شبه توقفت، الأمر الذي أثار بعض الغموض والكثير من التساؤلات حول الأسباب التي أدت إلى تراجع هذه العملية العسكرية الأولى لتركيا في سوريا منذ انطلاق الثورة هناك قبل حوالي ست سنوات!

لقد نالت عملية "درع الفرات" من الأهمية ما نالته خلال الأيام الأولى من الناحية السياسية والإعلامية والعسكرية على الصعيدين الإقليمي والدولي، لكن خلال الأيام الأخيرة تراجع الزخم الذي رافق انطلاقها بشكل كبير رغم الإعلان عن بدء المرحلة الثالثة من هذه العملية لتحرير مدينة الباب التي بدت بطيئة أكثر من سابقتيها، فمنذ إعلانها قبل عدة أيام لم نشهد أي تطورًا نوعيًا على الأرض لصالح الجيش السوري الحر الذي يقود العملية بالتنسيق مع القوات الخاصة التركية، بل أن عناصر تنظيم الدولة أعلنوا استعادتهم عدد من القرى التي سبق أن خسرها التنظيم بالقرب من بلدة الراعي الاستراتيجية، إضافة إلى تعرض فصائل الجيش الحر  إلى ما يشبه الهزة بعد إعلان عدد من الفصائل المشاركة في العملية (أحرار الشرقية، الفوج الخامس، صقور الجبل) تعليق أعمالهم في المعركة احتجاجًا على تدخل  قوات أمريكية خاصة في سير العمليات العسكرية هناك، إلى جانب تعرض القوات التركية لعدة كمائن أدت لخسارتها عدد من الجنود والآليات.

في عالمنا المليء بالأحداث المتسارعة فأنه من الطبيعي تراجع الاهتمام بحدث ما لصالح أحداث أخرى وخير مثال على ذلك "عاصفة الحزم" التي شنتها المملكة العربية السعودية قبل أكثر من سنة ونصف حيث فقدت الكثير من الزخم والاهتمام وتراجعت النتائج مع مرور الوقت رغم التأييد الكبير الذي حظيت به عند انطلاقها في آذار /مارس 2015، لذلك لا نريد لعملية " درع الفرات" الاستمرار طويلًا قبل تحقيق كامل أهدافها حتى لا تنجر تركيا إلى "مستنقع الشرق الأوسط" الذي يتمنى أعداؤها الغرق فيه كما غرق فيه من سبقها.

وحتى لا تنجر تركيا وجيشها إلى مرحلة استنزاف داخل الأراضي السورية نرى أن على الحكومة التركية أن تعيد دراسة خياراتها والمخاطر التي ستترتب على التباطؤ في إنهاء هذه العملية بالسرى القصوى للأسباب التالية:

- استمرار العملية لوقت طويل قد تكون له نتائج سلبية على تركيا خاصة وأن عناصر تنظيم الدولة سينفذون عمليات ضد قواتها الموجودة على الأراضي السورية مستخدمين الخلايا النائمة أو السيارات المفخخة وغيرها من وسائل القتال غير التقليدية التي يلجأ إليها التنظيم في حروبه.

- الاستفادة من الوضع الداخلي والدعم الشعبي التركي للعملية والتماسك السياسي السائد حالياً أفضل من أي وقت مضى بين بين الحزب الحاكم والأحزاب الأخرى يوفر الجو المناسب لاتخاذ خطوات جريئة تجاه القضية السورية، لضمان أمن حدودها وتعزيز موقفها في الملف السوري.

- يجب على الحكومة التركية أن تفرض نفسها كطرف فاعل على الساحة السورية من خلال الوجود المباشر - غير العسكري - على الأرض والحفاظ على هذا الوجود من خلال اتباع استراتيجية واضحة وفعالة تختلف عن الاستراتيجيات الأخرى التي يتبعها بقية اللاعبين القائمة على القتل وتدمير البنى التحتية واستهداف المدنيين وتجاهل احتياجاتهم. وقد يتمثل هذا الوجود المباشر بالشركات والمنظمات المدنية التي تساهم في مساعدة المدنيين على إعادة إعمار ما دمرته الحرب وتقديم الخدمات الأساسية لهم بموازاة استمرار تقديم الدعم العسكري النوعي لفصائل الجيش الحر.

- تجهيز الجيش السوري الحر بالأسلحة الثقيلة اللازمة لأخذ زمام المبادرة وتحرير المزيد من الأراضي باتجاه العمق السوري وحماية ما تم تحريره، واقناع الفصائل التي علقت مشاركتها في عملية "درع الفرات " بالعودة إليها بالسرعة القصوى.

- تأهيل جهاز للشرطة قادر على حماية المواطنين والحفاظ على أمن المناطق التي يتم تحريرها.

- دعم المجالس المحلية لإعادة نشاطها في المناطق المحررة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين بالتنسيق مع الحكومة السورية المؤقتة وبقية الداعمين.

- اتخاذ الاحتياطات اللازمة لاستقبال النازحين الجدد في المناطق المحررة خاصة من مدينة الرقة في حال شن عملية عسكرية لطرد عناصر التنظيم منها وضمان عدم تدفقهم إلى داخل الأراضي التركية مما يسهم في نهاية الأمر بتخفيض أعداد اللاجئين وتخفيف العبء الثقيل الذي يشكلونه على الحكومة التركية حاليًا.

- الإسراع بإنهاء أي وجود لميليشيا قوات سوريا الديمقراطية في غرب الفرات سواء بقوة السلاح أو من خلال الضغط على الولايات المتحدة لتنفيذ وعودها السابقة لأنقرة بعودة هذه القوات إلى شرق النهر بعد الانتهاء من طرد عناصر تنظيم الدولة من مدينة منبج.

- تمتلك تركيا الكثير من مقومات نجاح عمليتها العسكرية إذا ما تعاملت مع الظروف والأحداث بحكمة وهدوء وحزم في نفس الوقت. ومن أهم هذه المقومات المعرفة التامة بتضاريس الأراضي السورية وتركيبتها الديمغرافية خاصة في المناطق الحدودية، وامتلاك معلومات استخباراتية كافية تسهل من مهام قواتها والأهم نجاحها في اختيار شركائها من الفصائل الثورية من أبناء تلك المناطق في عمليات تحريرها.

امتلاكها استراتيجية واضحة لإدارة هذه المناطق من قبل أبنائها بعد تحريرها من خلال تقديم الدعم والخدمات اللوجستية لهم كما حدث في جرابلس، حيث باشرت على الفور شركات تركية بإعادة خدمات الماء والكهرباء والاتصالات وغيرها، في حين تقوم استراتيجية التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على تدمير البنى التحتية بشكل كبير في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة بحجة إضعافه وهو ما ولد حالة من الكره والعدائية تجاه التحالف وراح ضحية عملياته عشرات المدنيين الأبرياء.

إن انتهاء المرحلتين الأوليتين من عملية "درع الفرات" بنجاح دون خسائر كبيرة يشجع تركيا للمضي قدماً حتى انتهاء العملية، حيث تهدف المرحلة الثالثة إلى تحرير مدينة الباب التي تعد أكبر معاقل تنظيم الدولة غرب نهر الفرات، لتليها لاحقاً المرحلة الأخيرة ببسط السيطرة الكاملة على منبج وما حولها وإنهاء أي وجود لتنظيم الدولة أو قوات الحماية الكردية غرب نهر الفرات قد يشكل خطراً على الأمن القومي التركي.

نجاح عملية "درع الفرات" حتى الآن كشف زيف الادعاءات الأمريكية بأن قوات حماية الشعب الكردية هي القوة الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة، وأنها هي وحدها القادرة على دحره، وتشويه صورة بقية الفصائل الثورية خاصة ذات التوجه الإسلامي لتضليل الرأي العام العالمي وعلى وجه الخصوص الرأي العام الغربي.

نجحت أنقرة بإقناع الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري بمشروعية وحق تركيا في عملية درع الفرات وبأن أي حل سياسي أو عسكري في سوريا لابد وأن يمر عبر أنقرة أو يحظى بموافقتها على الأقل، لذلك نرى المسؤولين السياسيين والعسكريين للطرفين الدوليين الفاعلين في سوريا (الولايات المتحدة، روسيا) يتسابقون إلى أنقرة ويعرضون تعزيز التنسيق العسكري معها على أعلى مستوى ممكن، وهو ما بحثه مؤخرًا رئيس الأركان الروسي "فاليري غيراسيموف " مع المسؤولين الاتراك ومن قبله رئيس هيئة الأركان الأمريكية "جوزيف دانفورد".

 أصبحت تركيا جزء أساسي وفاعل فيما يسمى بــ "الحرب على الإرهاب" بل وأصبحت القوات التركية رأس الحربة في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية والتنظيمات الأخرى التي تصنفها أنقرة كمنظمات إرهابية. ونجاح عملية درع الفرات ستفتح الطريق أمام أنقرة للمشاركة في العمليتين العسكريتين الكبيرتين اللتين ستستهدفان إخراج تنظيم الدولة من الرقة في سوريا والموصل في العراق.

عن الكاتب

د. وسام الدين العكلة

دكتوراه في القانون الدولي العام


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس