د. سمير صالحة - الجمهورية 

نظرياً على الأقلّ، كلّما سارَع الجيش العراقي بالتنسيق مع قوات التحالف الدولي في إنجاز عملية تحرير الموصل من تنظيم «داعش» في إطار الأخذ بما تقوله تركيا ويقلِقها حول ضرورة حماية البنى التحتية للمدينة وعدم تغيير ديموغرافيتِها وتركِها تحت رحمة قوات «الحشد الشعبي»، كلّما زالت أسباب التصعيد والتوتّر التركي ـ العراقي.

وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قال إنّ تركيا ستسحب قواتها من بعشيقة ما إن تنتهي عملية تحرير الموصل وإعادتها إلى سكّانها الأصليين، لكنّه يقول أيضاً إنّ إرسال التعزيزات العسكرية إلى مناطق الحدود سيستمرّ بهدف التحسّب لأيّ مفاجآت أو سيناريوهات تتحمّل تركيا نتائجَها السلبية وتهدّد أمنَها في الداخل والخارج .

عملياً، الأمور ليست بمِثل هذه البساطة، فالتوتر التركي ـ العراقي هو توتر تركي ـ ايراني غير معلن، لكنّه يتفاعل ويتشعّب على الارض في التعامل مع ملفات إقليمية عدة ابرزُها الملفّان السوري والعراقي، حيث المواجهة في ذروتها وقد تطيح بكلّ ما كتِب وقيل عن براغماتية ناجحة للبلدين في الفصل بين الاقتصاد ومصالحهما التجارية وبين الملفّات السياسية والأمنية التي تباعد بينهما الى أقصى الحدود.

خيار التدخّل العسكري التركي هو أحد الخيارات المحتملة تركيّاً، وهذا ما تعرفه بغداد التي قال رئيس وزرائها حيدر العبادي إنّ بلاده لا تريد المواجهة العسكرية مع تركيا، لكنّها ستكون جاهزةً لها أيضاً.

العبادي يقصد هنا انّ دخول تركيا عسكرياً الى العراق يعني انّ ايران هي التي ستردّ قبل بغداد نفسِها. ما يقوله العبادي يطغى عليه النفَس الايراني اكثر ممّا يتقدّمه النفَس القومي العربي، لكنّ الذي ستقدِم عليه ايران بهذا الخصوص هو العامل المؤثر في تحديد مسار التطوّرات.

هل ستَدفع مثلاً بـ»الحشد الشعبي» نحو التصعيد والتوتير ليكون سبباً في إعلان الحرب على أنقرة؟ أم أنّها ستأخذ في الاعتبار انّ التصعيد العسكري سيَعني أكثرَ مِن تدخّلها المباشر الى جانب العراق للدفاع عنه؟

وهل هي جاهزة لإعلان الحرب على تركيا مباشرةً للدفاع عن دولة عربية جزء من جامعة الدول العربية فقط لأنّ التزامها المذهبي يفرض عليها ذلك؟ ألن تأخذ في الاعتبار ما الذي ستقوله الدول العربية، وتحديداً الدول الخليجية، التي دخَلت في تحالف استراتيجي مع تركيا يحذّر دائماً طهران من محاولات صبِّ الزيت على نار الفِتن الطائفية والمذهبية في المنطقة؟

كلام إيجابي عراقي سمعناه في الآونة الأخيرة يتحدّث عن بروز خطة عسكرية لمحاصرة «داعش» في الموصل والقضاء عليه هناك ومنعِ انتقاله إلى سوريا، وهذا ما دعت إليه تركيا منذ البداية وأبدت استعدادَها للتعاون في اتّجاه تحقيقه.

لكنّ كلاماً آخر يقلِق تركيا ومصدرُه «الحشد الشعبي» الذي اعلنَ أنّه سينتقل الى سوريا في المرحلة اللاحقة للتنسيقِ مع النظام في سوريا في محاربة «داعش».

هل يحتاج النظام السوري الى دعمِ «الحشد الشعبي» لمحاربة «داعش»؟ أم أنّها استراتيجية ايرانية جديدة لدمجِ ملفات سوريا والعراق ووضعِها في سلّة واحدة للمساومة حولها مع اللاعبين الإقليميين والدوليين؟

مشكلة أنقرة ليست مع طهران فقط، بل مع واشنطن التي ردّد الناطق الرسمي باسم وزارة دفاعِها مراراً أنّ الإدارة الاميركية ترفض إعطاءَ أيّ دور لـ«الحشد الشعبي» في المعارك، وهو يعلم جيّداً أن لا أحد في بغداد وطهران يأخذ بكلامه، لكنّ أزمة تركيا الأكبر هي تمسُّك واشنطن علناً بلعب ورقة حزب الاتّحاد الديموقراطي الكردي حتى النهاية في شمال سوريا واستعدادها لاختياره ليكون شريكاً لها في معركة الرقة إذا تصلّبَت تركيا في رفض إشراكه.

الموجع أكثر ربّما هو إعلان الوحدات الكردية نفسِها انّها لن تشارك في معركة الرقة إذا سُمِح للقوات التركية المشاركة فيها. ما تقوله واشنطن وتفعله يَخدم ايران وحدَها أوّلاً وأخيراً، وما زرعَته واشنطن في العراق منذ عام 2003 تقطف إيران ثمارَه.

فإيران تعرف اكثر من غيرها أنّها لا يمكنها ان تكون وسيطاً بين أنقرة وبغداد لإزالة التوتر الذي يخدم مصالحَها الاقليمية، وهي لا يمكن لها سوى ان تردّ مباشرةً بعد هذه الساعة على التصعيد التركي على جبهتَي الشمالين في سوريا والعراق، الذي يعرقل تقدّم المشروع الإيراني في البلدين.

أنقرة متمسّكة بخيار منعِ تهديد أمنِها ومصالحها في شمالي سوريا والعراق، وطهران عبر لعبِ ورقتي دمشق وبغداد حتى النهاية وتماشياً مع حساباتها ومصالحها وتحاشياً لارتدادات الملفَّين السوري والعراقي على امنِها ونفوذها الاقليمي ستَلعب كلّ ما تملكه من أوراق وخيارات عسكرية وأمنية وعِرقية لإحباط المشروع التركي الذي ترى فيه «رأس حربة» مخطّط ضرب مصالحها.

رسائل القيادي الداعشي أبو بكر البغدادي الاخيرة الى مناصريه ودعوتهم لنقلِ ساحة المواجهة الى المدن التركية لا تعني فقط صحّة ما قالته تركيا في مواجهتها مع هذا التنظيم، بل إنّ هدف هذه التهديدات هو أنّ لعب ورقةِ داعش ضد الداخل التركي تطوّرٌ لا يمكن تحليله خارج هذا السياق .

سيناريوهات كثيرة تتطاير في الأجواء التركية ربّما ستسبق خيارَ تحليق الطائرات هذه المرّة في أجواء الموصل، وهذا مخطط يشجّع عليه البعض بعدما أُعِدَّ له بصبر وعناية: دخول عسكري تركي مباشَر إلى شمال العراق بعد شمال سوريا يَخدم مشروع خلطِ كلّ الأوراق وتركِ المنطقة أمام مخطّط الاشتعال الواسع والحرب المفتوحة على أكثر من جبهة.
 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس