د. سمير صالحة - العربي الجديد

"لقد رددت هذا الكلام أكثر من 40 مرة، لكن بعضهم لا يريد أن يفهم. لن أعود إلى الحياة الحزبية والسياسية اليومية. سوف أواصل تقاسم تجربتي وخبرتي مع من يحتاج إليها، خدمةً لِدولتي وشعبي في الداخل، وعلى صعيد الفعاليات الدولية..." .

قال رئيس الجمهورية التركية السابق، عبدالله غل، هذا، وهو يرد على أسئلة حول احتمالات عودته إلى العمل الحزبي والسياسي، والسبب أن أقلاماً محسوبة على بيئته السياسية والحزبية، قبل أقلام المعارضة، تصرّ على مواصلة الحرب الإعلامية والنفسية وحملات التشويش ضده، والتلويح بأنه يعد مفاجأة سياسية وحزبية في تركيا، تقلب المعادلات رأساً على عقب، وتتعارض مباشرةً مع علاقات الأخوة الحزبية التي التزم بها هو أيضا لحظة انشقاقها على سياسات نجم الدين أربكان وأسلوبه قبل 16 عاماً.

نفى بشدة ما كتب عن تحركاته السياسية، واتهم من يشيع ذلك بأنه يريد الاصطياد في الماء العكر، وله غايات معروفة. وكانت مزاعم قد نشرت عن اجتماعه مع خبراء بريطانيين، وبرئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، على هامش مشاركته في مؤتمر أكاديمي علمي عقد في عمّان، لمناقشة السياسات الأمنية الإقليمية، وأنه طرح مع البريطانيين هناك استعداده للإعلان عن إنشاء حزب تركي جديد، يجمع توجهاتٍ وميولاً سياسية وفكرية عديدة في تركيا.

لم تكن عملية التسليم والتسلم بين عبد الله غل والرئيس رجب طيب أردوغان، في 28 أغسطس/آب من العام 2015، سهلة على الرجلين، وكانت على غل أصعب حتماً، فأردوغان يدخل قصر الرئاسة أولاً، ثم هناك من يقود عملية اختيار أحمد داود أوغلو ليقود الحزب والحكومة بعد أردوغان، من دون انتظار غل ثانياً. وبالتالي، هو وجد نفسه خارج المعادلات الحزبية الجديدة من دون أي منصب سياسي، أو جائزة ترضية، كان ينتظرها بادرة من الرئيس أردوغان، ربما في إطار التنسيق الثنائي المشترك الذي أطلقاه معاً في العام 2001، واستمر 15 عاماً. 

نجح أردوغان وغل، حتى اليوم، في إخفاء ما حدث بينهما قبل أسابيع من انتهاء حكم الأخير الذي ألمح إلى أنه على استعداد لتحمل المسؤوليات التي يكلفها به حزبه، بعد مغادرة قصر الرئاسة "ليس هناك أمرٌ طبيعي أكثر من أن أعود إلى حزبي، أو هويتي السياسية، بعد انتهاء مهمتي في رئاسة الجمهورية"، لكنه وبعد أيام فقط، وأمام رسالة "سعيكم مشكور" الحزبية، وقف ليقول "أنا لن أعود إليك".

ولم تؤثر تهديدات زوجة الرئيس غل السيدة خير النساء كثيراً في تغيير المشهد، وهي تحاول الرد على محاولات استهداف زوجها وأسرتها قبل أيام من مغادرة قصر الرئاسة، وتلويحها بإعلان "الانتفاضة الحقيقية" في وجه حملات الافتراء والتجنّي. قطع غل نفسه، عندما شعر أن بعضهم لا يريد أن يفسح له مكاناً، بعد انتهاء خدماته في قصر شنقايا، الطريق على نقاش عودته إلى الحزب والحكومة، منهياً، من دون ضجيج، تفاهم الشراكة مع أردوغان، على الطريقة الروسية المعمول بها حتى اليوم بين الرئيس بوتين ورئيس الوزراء مدفيديف. فما الذي فعله غل، وكيف رد على هدية المقعد الهزاز الذي وضع أمامه، على الرغم من أنه لم يكن خياره هو؟ 

خيّب آمال كثيرين بعدم التوجه نحو خيارات تصعيدية، والبحث عن بدائل تبقيه في قلب الصورة الحزبية والسياسية داخل حزب العدالة والتنمية أو خارجه، كما فعل عديدون من قيادات الحزب ومؤسسيه. ولم يمنح الفرصة لمن كان يمنّي النفس بحركة تصحيحية داخل الحزب الذي انشقّ عن الأب الروحي، نجم الدين أربكان، في العام 2000، حتى لا يتهم بخيانة الحركة وأهدافها وأسباب انشقاقها، وهذا ما حمله إلى موقع القلائل من الشخصيات السياسية التركية النموذجية في العمل الحزبي التي لم تدخل ساحة الاحتراب والصراعات الضيقة، من أجل موقع القيادة ومحاولة الاحتفاظ به.

وأعلن، مرة أخرى، أنه لن ينسى يوماً حزبه الذي أوصله إلى أعلى المناصب، لكن قليلين هم الذين يتذكرون أن حزبه لم يتريث يوماً واحداً لمنحه فرصة إنهاء خدمته في منصب رئاسة الجمهورية، وقرّر المسارعة بعقد مؤتمره الاستثنائي، وانتخاب داود أوغلو بعد إعلان أردوغان ترشحه لمنصب الرئاسة خلفا له. رسالة سياسية وحزبية مباشرة تقطع الطريق على احتمال عودته إلى قيادة الحزب في الحقبة المقبلة، على الرغم من أن 67% من أصوات أنصار "العدالة والتنمية" كانت تردّد يومها أنها تريد أن تراه في منصب رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء، خلفاً لرفيق دربه أردوغان. 

داود أوغلو إلى رئاسة الحزب والحكومة، وأردوغان إلى قصر شنقايا، وغل يلزم بالتنحي والتقاعد، وهو يقبل من دون اعتراض. ولو كان "مشاغبا" لعمل باقتراح قيادات المعارضة أن يكون مرشحها في انتخابات رئاسة الجمهورية التركية، فيكسب أصواتها ويدخل القواعد الشعبية لحزب العدالة والتنمية في مواجهاتٍ وشرذمات، رداً على إبعاده ولتصفية الحسابات مع من تركه خارج المشهد بهذه الطريقة، وهو في قمة التجربة والخبرة والاستعداد للاستمرار، فلم يسقط في المصيدة.

يقول غل إنه تحت إمرة الحزب والبلاد، لكن بعضهم يضيّق الخناق عليه، إلى درجة الإعلان أن الخطة الحزبية الجديدة رسمت، ولا مكان له فيها في السنوات العشر المقبلة على أقل تقدير. عبد الله غل خارج خطة "تركيا الجديدة" التي أطلقها الحزب، فاتحا الطريق أمام داود أوغلو الذي سرعان ما ترجّل، هو الآخر، بشكل مفاجئ، مغادرا الحزب والحكومة، من دون أن تُعرف الأسباب. هو الذي يدشن المتحف والمكتبة التي تحمل اسمه، تقديرا لجهوده وخدماته، لكنه هو أيضاً المطالب بأن يقبل باستمرار المسيرة الحزبية من دونه، ويكتفي بما يعرض عليه، وأن يتحمل هجمات بعضهم بين حين وآخر. 

كان المؤلم، وبعد انتهاء فترته الرئاسية، مسارعة أحد الأقلام المفترض أنها مقربة، في دعوته إلى البحث عن موقع قيادة في صفوف أحزاب المعارضة المتخبطة، فلدى "العدالة والتنمية" فائض في الخبرات. لكنه التزم بمناقبيته الحزبية والسياسية، ولم يرد على كل محاولات "الجلد" السياسي هذه. 

قبل عام تقريباً، نشر مستشاره الإعلامي أحمد سيفير كتاباً عن تجربته في العمل اليومي إلى جانب الرئيس غل الذي لم يوافق كثيراً على مضمون الكتاب وقرار نشره، لكن سيفير قال علناً إنه كانت لغل، إبّان فترة رئاسته، مواقف كثيرة تختلف عن مواقف "العدالة والتنمية" وأسلوبه في السلطة، ويرغب في العودة إلى الحزب، لتصحيح الأخطاء التي تم ارتكابها في السياسة الخارجية، ولتخفيف حدّة الاستقطاب السياسي داخل تركيا. لم يحظ بهذه الفرصة، لكنه لم يذهب أبداً وراء ما يفعله هواة الرياضة الذين يطرحون الخيارات والبدائل، ويجترحون المعجزات كلامياً فقط من المدرجات. 

عبدالله غل الذي شارك في العمل السياسي على مستوى القيادة منذ عام 1991 متمسّك بفكرة أنه لا خطط له بشأن عودته للعمل الحزبي "خدمت الدولة في جميع المستويات، ونفذت هذه المهام بشرف عظيم، وليس لديّ خطة سياسية في ظل الظروف الحالية". لكنه كان واحداً من ثلاثة أشخاص سارعوا بعد دقائق على انتشار نبأ المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/تموز المنصرم لمخاطبة الملايين، داعيا المواطنين للنزول إلى الشوارع "لإنقاذ الديمقراطية"، وهي قوة الدفع التي ستبقيه في المشهد السياسي التركي، شاء أم أبى.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس