سعيد الحاج - الجزيرة

أدى الاتفاق الثنائي بين تركيا و روسيا لإجلاء المدنيين  والعسكريين من شرق حلب ثم انعقاد القمة الثلاثية بمشاركةإيران حول سوريا إلى انتشار تحليلات وتوجيه اتهامات لتركيا بتغيير سياستها في الأزمة السورية.

تركيا والثورة السورية
الحقيقة أن الثابت الوحيد في الموقف التركي من الثورة/الأزمة السورية كان التغير الدائم على مدى السنوات الست السابقة، بناء على تفاعل ثلاثة عوامل هي: الواقع الميداني السوري، والمشهد التركي الداخلي، والموقف الدولي من الثورة/الأزمة.

ونتيجة لتفاعل هذه العوامل الثلاثة، فقد تطور الموقف التركي من حث بشار الأسد على القيام بإصلاحات جذرية وحقيقية مع بداية الحركة الاحتجاجية في مارس/آذار 2011، إلى دعم المعارضة والمطالبة بإسقاط النظام ابتداءً من 20122، إلى القبول بالحل السياسي للأزمة بشرط رحيل الأسد في 2015، إلى القبول الضمني ثم العلني ببقائه خلال الفترة الانتقالية في 2016، إلى التدخل العسكري المباشر على الأراضي السورية عبر عملية درع الفرات في أغسطس/آب 20166.

قرار التدخل -رغم سنوات من أدبيات رفض "التورط" في الأزمة- جاء بناءً على أولويات الأمن القومي التركي والرغبة في وأد فكرة الدويلة الكردية في الشمال السوري، وبسبب الإخفاق في بلورة الرؤية التركية في سوريا لعدة أسباب منها ضعف المعارضة وتشتتها والتدخل الروسي المباشر، وتأثراً بتبدل الموقف الدولي من الضغط على النظام إلى الاكتفاء بمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حصراً، وإثر تفاهمات معموسكو وضوء أخضر منها بعد التقارب وتطبيع العلاقات معها.

ويبدو أن لحظة درع الفرات كانت فارقة في مقاربة تركيا للأزمة السورية بسبب ما اكتنفها من تناقضات وتداخلات. فتدخلها لوقف تقدم المشروع الكردي يضطرها لضمان الضوء الأخضر الروسي لبدء العملية ثم لحماية قواتها وجنودها، بينما ما زالت على خلاف كبير مع موسكو في رؤية حل الأزمة وفي تضارب مصالح واضح معها، في الوقت الذي تعجز فيه عن مواجهتها عسكرياً ولو بالوكالة.

فتحصلت القناعة لدى صانع القرار التركي بضرورة التفاهم والتعاون مع موسكو بدل المواجهة، وكانت الحصيلة عملية عسكرية محددة الأهداف ومحدودة السقف السياسي والعسكري والإستراتيجي، بمعنى التخلي تماماً ونهائياً عن فكرة إسقاط النظام، والتراجع عن دعم المعارضة المسلحة في حلب، والوصول إلى مدينة الباب كحد أقصى في العمليات العسكرية. ثمة من قال: عجزت تركيا عن أن تنقذ نفسها والمعارضة معاً، فاختارت أن تنقذ نفسها، ولعله اقترب من التوصيف الصحيح.

وعلى هامش العمليات العسكرية، تجنب الخطاب الرسمي التركي توجيه أي لوم إلى روسيا عبر تحميل المسؤولية الكاملة للنظام عما يجري في حلب رغم أن القصف الجوي للمدينة كان روسياً في معظمه، وتركَ دعواته السابقة والمتكررة لضرورة تحييد المعارضة "المعتدلة"، بل عملت أنقرة على سحب/جذب بعض الفصائل المقاتلة في حلب للمشاركة في درع الفرات وفق بعض التقارير.

ما بعد حلب
بذلت أنقرة جهوداً دبلوماسية وإغاثية كبيرة ومشكورة لإنقاذ المدنيين المحاصرين في حلب واستضافة بعضهم وعلاج الجرحى، لكن كل ذلك لم يكن كافياً لينفي عنها تهمة التخلي عن حلب في مقابل الباب. التركيز على البعد الإنساني دون السياسي أو العسكري كان يعني الضغط على المعارضة للقبول بخروجها من حلب، وفق الشروط الروسية ثم الشروط الإيرانية المضافة لاحقاً.

وفق تلك المعطيات، كانت أنقرة قد اقتربت كثيراً من الرؤية الروسية للحل، وهو ما أشار له تصريح فلاديمير بوتين الذي أوردته صحيفة الحياة عن "توافق تركي/روسي على إجلاء المسلحين" من المدينة خلال زيارة رجب طيب أردوغان لموسكو في سبتمبر/أيلول الفائت. 

القمة الثلاثية في موسكو بعد إجلاء المدنيين والعسكريين من شرقي حلب حملت إشارات إضافية على إعادة تموضع تركيا في الأزمة السورية، واقترابها أكثر من روسيا وبدرجة أقل من إيران، على حساب رؤيتها السابقة بل ومصالحها في بعض التفاصيل.

فقد همش الإعلان الدور الأميركي/الأوروبي، وصدر في غياب أي ممثل عن السوريين، وشمل وقفاً شاملاً لإطلاق النار في كل سوريا، وحدد "مكافحة الإرهاب" كأولوية، وحكم على سوريا المستقبلية بأنها يجب أن تكون "ديمقراطية وعلمانية".

تراهن تركيا على تهدئة الأوضاع في سوريا بعد أن عرّضتها مواقفها السابقة للضغوط الخارجية والاستهداف، وبعد أن ضاعفت حالة الفوضى والتفاقم من مخاطر "داعش" والفصائل الكردية المسلحة عليها، وتسعى لتعميق حالة التفاهم والتعاون مع موسكو لموازنة التوتر في علاقاتها الأميركية والأوروبية، كما يبدو أنها لا تأمل تغيرا كبيرا في السياسات الأميركية تجاه الأزمة السورية مع رئاسة دونالد ترمب.

من جهتها، تعول روسيا على دور تركي فاعل في بعض السيناريوهات المستقبلية المحتملة في سوريا:

الأول، الحل السياسي بعد فرض وقف إطلاق النار، بحيث "تقنع" أنقرة الفصائل السورية المعارضة بالمشاركة في العملية، في ظل تهديد روسي باستهداف كل من يتخلف أو يرفض.

الثاني، رغبة روسيا بحسم جبهة إدلب على غرار ما فعلت في حلب بعد تجميع الفصائل المعارضة هناك، حيث سيكون لمواقف الدول الداعمة  -وخصوصاً تركيا- دور حاسم في مسار التطورات إيجاباً أو سلباً.

الثالث، انتقال المشهد السوري إلى مرحلة جديدة عنوانها الريف، ومضمونها حرب العصابات، وهدفها استنزاف الروس، وهو ما سيوجه الأنظار مرة أخرى إلى الدول الداعمة وفي مقدمتها تركيا وأي موقف ستتخذه إزاء تلك التطورات المحتملة.

مسارات خطرة
لا يجادل اثنان حول مسؤولية المعارضة السورية في مآلات الأوضاع بحلب خاصة وسوريا عامة، فالعامل الذاتي هو الأساس في أي صراع ثم تليه العناصر الداعمة أو الرافدة.

وبالتالي فضعف الفصائل وتشرذمها وغياب الرؤية الجامعة لها سياسياً وعسكرياً أضعف كثيراً من موقفها، ولربما أوحى للدول الداعمة أو بعضها بعبثية الاستمرار في الدعم رغم التراجع. لكن أيضاً ومن جهة أخرى، تتحمل الدول الداعمة وزراً كبيراً من المسؤولية باعتبار أنها ساهمت في حالة التشظي، ومنعت الدعم النوعي وتركت أخيراً حلب تواجه مصيرها وحدها.

من هذا المنظور، وعطفاً على ما سبق من تطورات رسمت المشهد الحالي من التفاهمات الروسية - التركية؛ يبدو مسار تركيا الحالي محفوفاً بالمخاطر لعدة أسباب.

فإعلان موسكو -الذي تحدث عن روسيا وإيران وتركيا كدول ضامنة للحل- قد استبعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية  الداعمة للمعارضة، وبالتالي سيزيد الهوة بين أنقرة وبين هذه الأطراف، ويزيد الهواجس التي قد تعوق التقارب والتفاهم لاحقاً.

كما أنه يشكل مخاطرة كبيرة لإيحائه بالخروج عن الإطار الأممي/الدولي لحل الأزمة والاكتفاء بالإطار الثلاثي، فضلاً عن أن تركيا طرف واحد في مقابل اثنين ضمن هذه المعادلة، مما يضعف موقفها ويجعلها أقرب لتقديم التنازلات أكثر من فرض وجهة نظرها، وقد كان ذلك واضحاً بتبني وجهة النظر الروسية في تصنيف المنظمات "الإرهابية"، حيث استبعدت المليشيات "الشيعية" والكردية التي تعتبرها أنقرة إرهابية.

ومن زاوية أخرى، تبدو أنقرة وكأنها وضعت كل بيضها في سلة الحل السياسي والتعاون مع روسيا، الأمر الذي أفقدها ويفقدها أوراق قوتها في الملف السوري، التي تأتي المعارضة السورية المسلحة في مقدمتها بالتوازي مع الوجود التركي العسكري على الأرض.

الأهم هو صعوبة الوثوق بثبات الموقف الروسي بعد استتباب الأمر وانتفاء أو تراجع الحاجة الروسية للدور التركي، الأمر الذي قد يهدد فكرة المنطقة الآمنة أو الخالية من "الإرهاب" التي باتت ركنا رئيساً في نظرية الأمن القومي التركي وحماية الحدود، وقد يعرّض عملية درع الفرات برمتها لمخاطر شديدة لا تقوى أنقرة على تحمل تبعاتها.

والأخطر أن تركيا تجازف كثيراً في تفاهماتها مع روسيا بسمعتها والصورة الذهنية عنها بين السوريين والعرب، وبقوتها الناعمة في العالم العربي والمنطقة، إذ تعطي انطباعاً بمقاربة مصلحية براغماتية بحتة للأزمة السورية، وأنها في تناغم وتحالف مع دولتين محتلتين للأرض السورية ووالغتين في دماء شعبها هما روسيا وإيران.

هذه الصورة الذهنية -التي تضع "الجزرة" التركية جنباً إلى جنب مع "العصا" الروسية والإيرانية- ستعني أن التفاؤل والاستبشار بعملية درع الفرات من قبل طيف مهم من السوريين، والتفهم والمداراة لتطورات هذه العملية ونتائجها وآثارها السلبية التي سادت حتى الآن، قد تختفي جميعها لتتحول النظرة لتركيا من دولة داعمة ونصيرة إلى قوة غير مرغوب فيها على الأرض السورية، وهو ما قد يفتح الباب لاستهدافها واستنزافها.

أخيراً، فإن مسار التقاربات بين تركيا وروسيا من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى ليس مساراً حتمياً لا عودة عنه، بل فرضته التطورات الميدانية في سوريا والتحديات الداخلية والخارجية لتركيا، فضلاً عن التوازنات الدولية المائلة تماماً لمصلحة موسكو بأسلوب يشبه التفويض التام في الملف السوري.

وبالتالي فإن هذا المسار سيكون معرضاً دائماً للانهيار أو التقويض إذا ما تراجع مستوى التحديات التركية الداخلية والخارجية، أو اختفت حالة التفرد الروسية في سوريا، إما بسبب تغير الموقف الدولي بأي اتجاه، أو بسبب أي خلافات روسية/إيرانية جدية في المستقبل (ليس ثمة مؤشرات حقيقية عليها)، أو بسبب تحول الأوضاع الميدانية من السيطرة التامة إلى الاستنزاف الطويل المدى.

ومن البديهي أنه رغم تراجع موقفها مؤخراً، فإن تركيا تبقى أقرب الدول للمعارضة وأقدرها على لعب دور إيجابي لصالحها، وينبغي بالتالي الحرص على العلاقات والتعاون معها ما أمكن وليس استعداؤها، لا سيما في حال اللجوء إلى مسار سياسي ستحتاج المعارضة فيه لظهير قوي.

وفي غياب أي مؤشرات على متغيرات جذرية قريبة في الموقف الأميركي و/أو الدولي من الأزمة السورية أو من موسكو، فإن الخيار المتاح لإمكانية تغيير المقاربة التركية هو في يد المعارضة السورية السياسية والعسكرية، إن أحسنت القراءة والتقييم والتقويم وتوحيد الرؤية والموقف والمسار سياسياً وميدانياً، بما يمكن أن يعدل من كفة الميدان عسكرياً ويفاقم من تورط روسيا في سوريا، ويتيح -ضمن عوامل أخرى- عودة تركيا إلى مستوى الدولة "الداعمة" وليس "الوسيطة"، وإلا فإن استمرار الأوضاع الحالية سيغري أنقرة بالاستمرار أكثر في مسار التقارب مع روسيا، وهو ما لا يصب حتماً في مصلحة سوريا أو شعبها أو ثورتها أو معارضتها.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس