جلال سلمي - خاص ترك برس

وجهت الحكومة التركية، على لسان رئيس وزائها "بن علي يلدرم"، هجومًا لاذعًا ضد التحالف الدولي، بقيادة الولايات الأمريكية المتحدة، فيما يتعلق بسياسته في محاربة "داعش"، قائلًا إن العالم أجمع "ينام ويستيقظ مع داعش" ومن ثم يأتي ليعلن مكافحته "الكاذبة والمخادعة" له.

وأعقب ذلك الهجوم الحاد، هجوم موازي جاء على لسان الناطق باسم الحكومة التركية "نعمان كورتولموش" الذي اتهم الإدانات الدولية لحادثة "استهداف الملهى الليلي" بالكاذبة والمشابهة "لدموع التماسيح"، مبينًا أن التحالف الدولي لا يقوم بمهامه حيال محاربة "داعش" والتعاون مع تركيا بالشكل الصحيح.

وعند النظر إلى تلك التصريحات الفريدة من نوعها منذ تأسيس الجمهورية التركية بنظرة تحليلية، نستخلص بدايةً أن تركيا ماضية، في المرحلة الحالية على الأقل، لتعزيز تحالفها السياسي والعسكري مع روسيا التي باتت تشكل لها البديل المثالي في المنطقة التي تقاسي التغلغل الإرهابي المرفق بمراوغة دولية وأمريكية حيال مكافحته.

وتكاد هذه التصريحات توحي إلى أن تركيا قد تعود لفتح أوراق الاتفاق المبدئي حول منظومة الدفاع الأمنية التي توصلت إليها إبان زيارة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى بطرسبرغ الروسية في آب/ أغسطس الماضي، فقد اجترحت تركيا منذ عام 2011، لاستجداء حلف الشمال الأطلسي في تأسيس منظومة دفاع أمنية جوية متكاملة توفر لها الحماية، وحاولت الضغط عليه من خلال توقيع اتفاق مبدئي مع شركة صينية، سي بيمايك، في آذار/ مارس من عام 2015، وعبر استيراد بعض الصواريخ قصيرة وطويلة الأمد من الصين أيضاً، وبعد إعلان الشركة الصينية فض العقد بدعوى تأجيل تركيا عملية التطبيق خمس مرات متتالية، سعت تركيا لتشكيل ضغط على الناتو من خلال إعلانها التوصل إلى اتفاق مبدئي مع روسيا لتأسيس نظام دفاع جوي، وقد يكون لهذه المنظومة نصيب في التنفيذ إن استمر الناتو والتحالف الدولي لمحاربة "داعش" في تعنتهما إزاء إحراز ما ترغب به تركيا من محاربة حقيقة "لداعش" والمنظمات الإرهابية الأخرى بشكل جاد.

ويؤدي تنامي التقارب التركي الروسي إلى تعاظم الدور الروسي في المنطقة، لا سيما في ظل غياب الدور الأمريكي الفعال نتيجة المرحلة الانتقالية للرئاسة وسياسة المماطلة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية السابقة بشكل مقصود لتحقيق مكاسب ميدانية تقوي من أوراقها الدبلوماسية، فغياب الرؤية الأمريكية البديلة، في الفترة الحالية، فسح المجال أمام روسيا لتعزيز تحركها الدولي والإقليمي، وقد يؤدي ذلك الفراغ إلى دفع تركيا نحو المزيد من التقارب مع روسيا مانحاً الأخيرة فرصة تضخيم تأثيرها الدبلوماسي والعسكري في المنطقة، لا سيما بعد إظهارها عبر تأسيسها للفيلقين الرابع والخامس اللذين تهدف من خلالهما كبح وتنظيم تحرك القوات الحليفة لها في سوريا، ومن ثم الجنوح لعملية تسوية للقضية السورية عبر "إعلان موسكو" الذي جمعها بتركيا وإيرن، أنها راغبة وبشدة لمحاربة الإرهاب في سوريا والبقاء عليها كيان جغرافي سياسي موحد يمنحها فرصة تطبيق نظرية "الأعمدة" التي خطها مهندس السياسة الخارجية الروسية الحالية "إلكسندر دوغين"، والتي تشير إلى أن وجود دول قائمة ومضادة للتحرك الأمريكي في منطقة أوراسيا، أوروبا وأسيا، تشكل أعمدة يمكن لروسيا الاتكاء عليها لتشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب يكسر الاحتكار الأمريكي في السيطرة عليه، فرغبة تركيا بالتحالف، وإن كانت تكتيكية، تمنح روسيا فرصة أخرى لتوسيع نطاق "أعمدتها"، وتشكل تركيا مثال نموذجي للاقتداء على صعيد إقليمي، فنجاح تحالفها مع روسيا بهذا الشكل يعطي روسيا فرصة ضم المزيد من دول المنطقة تحت مظلتها "كأعمدة" متحالفة ضد الاحتكار الأمريكي السياسي والاقتصادي والثقافي.

ويُستنتج من التصريحات أيضًا أن تركيا تملك رغبة شديدة في الوصول إلى حل سياسي وعسكري سريع يكفل إعادة السلطة المركزية القوية في دول الشرق الأوسط، لسد الفراغ الأمني الذي نتج عنه ميلاد داعش وغيرها من المنظمات الإرهابية، والراجح هو أن تدفع هذه الرغبة تركيا إلى بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية لتدعيم سبل الحل السياسي في سوريا، ورفع مستوى تعاونها الدبلوماسي والأمني مع موسكو وطهران وبغداد بعيداً عن أهداف النفوذ السياسي الميداني وفي إطار مبدأ "التقارب البراغماتي" الذي يوفر الأمن والاستقرار في المنطقة، واللذان عادا على تركيا ببيئة مواتية للنمو الاقتصادي والثقافي الذي ولد نفوذ سياسي ناعم منحها موقع دبلوماسي مرموق على صعيد إقليمي.

تعاني تركيا، اليوم، من عدة أضرار دبلوماسية واقتصادية واجتماعية عادت عليها نتيجة موقفها الداعم لثورات الربيع العربي، وفي ضوء سيطرة نظرية "فشل هذه الثورات التي أدت لانعدام السلطة وسيطرة المنظمات الإرهابية"، يصبح أمر عودة تركيا إلى سياسة ما قبل ثورات الربيع العربي أمر شبه أكيد، ولا تنم هذه التصريحات الحاضنة لامتعاض تركيا من عدم جدوى التحالف الدولي في محاربة "داعش"، إلا عن هدفها الاستراتيجي في القضاء على المنظمات الإرهابية وإعادة القوة للسلطة المركزية، وبالتالي العودة إلى مبادئ السياسة الخارجية التي كانت عليها ما قبل ثورات الربيع العربي.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس