نورس العبدالله - خاص ترك برس

في جلسة ذات يوم مع شخص نال لتوه درجة الماجستير في التاريخ، انطلق بعفوية حوار حول الخلافة العثمانية، إلا أن الحوار البسيط ذاك  بات جدالًا حادًا عندما وصل الحديث الى السلطان عبد الحميد الثاني وفترة حكمه.

شن الحاضرون هجومًا شرسًا وعنيفًا على تلك الشخصية التاريخية، فكان الصديق الجامعي صاحب الاختصاص ينطلق بهجومه استنادًا على مناهج دراسته التي كانت مصدرًا وحيدًا لمعلوماته، وأما البقية فقد أيدوا آراءه مستدلين بمقولات اشتهرت في حقبة سابقة على شكل يشبه الشائعة التي تتناقلها الألسن، دونما تمحيص وتفكير كجواسيس السلطان وظلم السلطان وجنون السلطان، ولقد ترسخت هذه المعلومات المغلوطة بأذهانهم دون معرفة من أطلقها أو بذل العناء في البحث عن أسباب انطلاقتها ودوافعها، وبمعلومات تسللت وتراكمت إلى أذهانهم عبر مسلسلات شاهدوها.

تلك العينة البسيطة تمثل شريحة أكبر تعرضت للتلوث الفكري والدجل الثقافي ووقعت بشباك مصيدة كبيرة هي البهتان، فهذه المعلومات المغلوطة والسطحية توجد لدى الكثير من  شعوب العالم الإسلامي.

لكن على المرء أن يلتمس لهم الكثير من الأعذار، نعم فهم بالحقيقة ضحايا لتزوير تاريخي ممنهج وآلة ضخمةٍ ماهرةٍ عملت ليل نهار لصناعة رأيٍ عام، وذلك وسط غياب أو نقصٍ من معروضٍ حقيقي أو طمسٍ متعمد ٍلآراء أخرى حول الشخصية العظيمة الجدلية والمرحلة العصيبة والظروف الحساسة التي سبقت انهيار خلافةٍ وتفتت أمةٍ وتغير مفاهيم أخوةٍ وحدود وطن.

فلقد كان القلم الوحيد في المناهج والصحف والإعلام بيد أتباع أعداء السلطان وخصومه من قوميين عرب وأتراك وأرمن وصرب ويونان وبيد صهيونيين وغربيين وشرقيين ناصبوه العداء وتآمروا معًا عليه رغم عداوتهم وصداماتهم.

هؤلاء الزملاء في معسكر العداوة لم يكن يجمعهم سوى هدف واحد هو إسقاط السلطان وإزاحته عن الحكم، فانطلق كلن منهم من أسبابه الخاصة فتوحدوا بالهدف واختلفوا بل تصادموا في الغاية بعد ذلك.

 اتفقوا جميعًا وبصوت واحدٍ على وصفه بالمستبد والديكتاتور والمجرم الكبير والسلطان الدموي الأحمر وعدو الحرية والبخيل والجاهل بل وحتى بالمجنون.

- لنستعرض برحلة قصيرة هذه الصفات التي ألصقت بالسلطان عبد الحميد قياسًا على أفعاله وتصرفاته، لنرى إن كانت صفات أنصف من أطلقها عليه أم افترى.

بنظرة سريعة على سلسلة الأحداث فقد تولى السلطان عبد الحميد في عام 1876 خلفًا لشقيقه المعزول مراد الذي تولى لثلاثة أشهر فقط وتم خلعه بسبب ضعف قدراته العقلية، وكان مراد تولى بدوره بعد خلع عمه السلطان عبد العزيز في نفس العام ومقتله بعد ذلك بأيام أربعٍ في ظروف غامضة، هذا الاضطراب في قمة هرم الدولة يؤكد أي حالٍ وصلت له، ناهيك أن القرن ذاته شهد احتلال الإنكليز والفرنسيين والروس الكثير من أجزائها.

امتلأت فترة حكم السلطان بالعديد من المحطات الهامة التي أتقن وأحسن الدفاع فيها عن دولة كبيرة وأمة عظيمة كانت تحتضر عند توليه زمام الأمور، وانطلق بهمة عالية وفكر نيرٍ وواضح ورؤية شاملة للإصلاح، لكن المهمة كانت بالفعل أشبه بالمهمة المستحيلة، خاصةً في ظل غياب رجال دولة عظماء وغياب فهم عميق للمخاطر والظروف الدولية والتآمرات الإستعمارية من الكثير من رجالات القصر والجيش والمؤسسات، إذ كان الوهن والضعف والتخلف قد أصاب أركان الدولة ومفاصلها، وكانت الهزيمة النفسية للنخب الثقافية وتكاتف الأعداء الخارجيين وتآمر العملاء أو غشاوة أعين الجهلاء في داخل المجتمع وأركان الدولة هو عنوان المرحلة بامتياز.

دولةٌ ذات خزينةٍ خاويةٍ وديونٍ عملاقةٍ للبنوك والدول، ومجتمع نشأت به حركات غربية الهوى وعرقيةُ التوجه، وحركات انفصالية كثيرة، وجيش مترهل كثر فيه الفساد، وسط ركود فكري وضعف علمي وصناعي وخدمي.

هذه هي الدولة التي تولى شؤونها السلطان عبد الحميد الثاني، لكنه انطلق بجدٍ في عملية الإصلاح الشامل، الذي تعرقل في كثير من الأحيان بسبب الحروب الخارجية والمؤامرات الداخلية فانطبق حاله وقول المتنبي: وسوى الرومِ خلف ظهرك رومٌ  -  فعلى أي جانبيك تميلُ.

- وصف بالجاهل وقد كان محبًا للعلم ودرس اللغات التركية والعربية والفارسية والفرنسية وكتب الشعر وتعمق بدراسة التاريخ.

- وصف بعدو العلم وعدو النور وهو الذي افتتح الجامعات والمدارس المالية والتجارية والبحرية وأنشأ لأول مرة في الدولة العثمانية مدارس الصم والبكم والعميان ومدارس التعليم المهني للمرأة، أي أنه أطلق عملية علمية كبرى بكل أنحاء وأرجاء الدولة انطلاقا من قناعته بأن العلم شرطٌ حتميٌ للتنمية.

- وصف بالبخيل والمبذر في آنٍ واحد، وهو الذي لم يستدن قرشًا واحدًا من أحد وقام بتخفيض الدين العام بنسبة كبيرة تقترب من 90 بالمئة، وهو من تبرع من أمواله للخزينة وعاش تقشفًا في حياته الخاصة.

- وصف بالسفاح والسلطان الأحمر لمواجهته حركات التآمر التي ترعاها سفارات الدول الاستعمارية، وهو الذي كان رحيمًا بأعداء الدولة والمتآمرين عليه وكثيرًا ما كان عقابه لهم يقتصر على كف شرورهم فقط وذلك عبر تعيينهم بمراكز بعيدة في أرجاء الدولة وبرواتب عالية أيضًا، وأما روايات تقطيع الخصوم ورميهم في البحر التي نسبت إليه فقد كانت إشاعات لا دليل ولا برهان على أي واحدة منها، ولربما كانت صفة التسامح والرحمة الزائدة التي يتمتع بها هي نقطة ضعف حقيقية أحسن استغلالها الأعداء.

- وصف بصاحب الهواجس وبالمجنون في بعض الأحيان، ونسجت حوله الإشاعات الأقرب للأساطير وهو النجار البارع والشاعر وقارئ القصص والروايات المترجمة وصاحب النظرة العميقة والفكر الكبير الذي واجه به النظريات الغربية القومية والتيارات المتأثرة بها داخل الدولة واعتبرها بوضوح دعوات لتفتيت الأمة، وهو ما حصل لاحقًا بالفعل إذ قاتل كل تيار من المعسكر المعارض له بعضهم بعضًا، وتقاذفوا التهم إلى يومنا هذا، وبنوا جدرانًا من الكراهية بين العرب والترك والفرس والكرد وتقاذفوا الاتهامات بمن تسبب في فرط عقد الخلافة وسقوط البلاد تحت الاحتلال بالحرب العالمية الأولى، ولو وعت النخب الفكرية الثقافية التي تخرج الكثير منها من التعليم العالي الذي أنشأه وطوره السلطان عبد الحميد، ووعت القيادات العسكرية في الجيش الذي أعاد تنظيمه السلطان وسهر على تطويره وتسليحه لمجابهة الأعداء، لو أدركوا جميعًا طريق النجاة وإعادة الأمجاد والتنمية الحضارية، ذلك الطريق الواضح المعالم الذي طرحه السلطان من خلال دعوته للجامعة الإسلامية والتمسك بهوية الإسلام ورابطته وقيمه وتعاليمه بوجه الجاهلية العنصرية لتغير الحال حقًا والمصير.

- وصف بالديكتاتور والمستبد وهو من أعلن الدستور (المشروطية) وافتتح مجلس المبعوثَين، لكن ذلك لم يكن ذلك هدف مناوئيه الحقيقي، إذ أرادوا السلطة لأنفسهم لتحقيق أطماعهم وقد حاول بعضهم منذ بداية حكمه خلعه وإعادة تنصيب شقيقه مراد المريض كي يكون ألعوبة بأيديهم لكنهم فشلوا بذلك، ولمعرفته ونظرته العميقة للأمور والمخاطر المحدقة بالدولة  وضرورة وجود سلطة مركزية قوية قام بتركيز السلطة في يديه، بالإضافة لإدراكه تغلغل التيارات الهادمة لوحدة الأمة في رجالات الدولة فقرر تعليق العمل بالمجلس، فقد كانت البلاد في حال أشبه بحالة الطوارئ.

ولو أنه كان مستبدًا حقًا وديكتاتورًا ومتعطشًا للسلطة حقًا لما أثبت في العديد من المواقف أن القيم ومصالح الدولة كانت المنطلق الذي يبني عليه تصرفاته أصابت أم أخطأت التقدير، ولقدم بقائه على رأس السلطة وسلامة روحه على أي اعتبار آخر، ويظهر هذا جليًا عند محاولة اغتياله عبر عنصري أرمني وضع قنبلة بسيارة دبلوماسية ركنت قرب سيارته أثناء أدائه لصلاة الجمعة، ولقد نجى بأعجوبة من الموت هناك، فقام أمام الجميع وقاد عربته بنفسه بثبات وقوة غير آبه بالمخاطر.

ولو أنه كان ديكتاتورًا حقًا يعشق السلطة لوافق على عرض هيرتزل الزعيم الصهيوني الذي تضمن إسقاط قسم كبير من الديون عن الدولة، ورشوة مالية ضخمة له، والقيام بوقف الثورات في البلقان وحركات التمرد الأرمنية عليه، والأهم من كل ذلك  وقف حملات التشويه والتحريض في الصحافة العالمية ضده مما يعني توطيد أركان حكمه، كل ذلك مقابل تملك اليهود لمستعمرات في فلسطين فرفض بشدةً وحزمٍ قائلًا: "أنا لن أبيع شبرًا واحدًا من الأرض فهذا الوطن أمانةٌ بيد الأمة وليس ملكي"، وقال في رؤية واضحة واستشراف للمستقبل: "إن استطعتم إزاحتي وتمزيق دولتي فستحصلون على فلسطين بدون ثمن"، فقد أدرك أن موقفه هذا يعني المغامرة بملكه وحياته.

- وصف بالمجنون وقد كان فطنًا حكيمًا قوي الشخصية صاحب نظرة إدارية واضحة، وهو من أنشأ الخطوط الحديدية بكثافة لربط أرجاء الدولة ببعضها، يرمي بذلك لأهداف تجارية وعسكرية واجتماعية وتنموية، وهو من أدرك أهمية جنوب العراق الذي اكتشف فيه النفط وأنشأ سكة الحجاز الحديدية التي تصل إلى الأماكن المقدسة في الحجاز، والتي دمر لورنس الإنكليزي الذي عرف بلورنس العرب خلال الحرب العالمية الأولى أجزاءً منها، مدمرًا ما كانت تمثله من حلم يربط أوصال أمة.

وأما فصل الختام في مسيرته فقد رُسمت ملامحه منذ بداية المشوار العظيم بمواجهة الأعداء، فاستطاع كل الخصوم أن يحولوا كل جهد بذله لنهضة أمةٍ إلى مسمارٍ في نعشه ونعشها، فلقد تصاعدت حركات المعارضة ممن تخرج من المدارس والكليات التي افتتحها، وتحول الكثير من ضباط الجيش الذي طوره وجهز نصال بنادقه للدفاع عن الدولة إلى خناجر طعنته وخاصة في البلقان المتوتر، فلقد نشأت من هؤلاء جمعية سرية بادئ الأمر علنية لاحقًا هي جمعية الاتحاد والترقي عام 1989م، وازداد نشاطها وعظم شأنها وتغلغلت لدى الشباب الطلبة وقيادات الجيش وسرعان ما تحولت الجمعية إلى دولة داخل الدولة، فكانت الجمعية تنظيمًا موازيًا يماثل تمامًا وضع التنظيم الذي أنشئ في تركيا الحديثة في أيامنا هذه، حيث أعاد من دعم وساند تركيا الفتاة أولًا كحركة تضم من يحلم برأس السلطان وما تولد من رحمها أي جمعية الاتحاد والترقي، أعاد الكرة تمامًا هذا الراعي بحكم خبرته الموروثة مع تنظيم غولن وحاول الانقلاب على إرادة الشعب وقراره ولكنه بوعي الشعب فشل في الحاضر، إلا أنه في الماضي نجح بالانقلاب وخلع سلطان حاز محبة السواد الأعظم من الأمة.

فبعد أحداثٍ عرفت بأحداثِ 31 آذار/ مارس، وفي صباح يوم الثلاثاء 27 أبريل/ نيسان من عام 1909م، دخل أربعة رجالٍ واحدٌ منهم أرمني والثاني يهودي إلى السلطان كمندوبين عن المجلس الذي شكل، وقال أحدهم لقد عزلك الشعب، وأخرج آخر ورقةً وهي عبارة عن فتوى  لعزل السلطان، وتليت عليه وهو يصغي، ثم قال السلطان: "يقضي الله ما يشاء ورسول الله هو من سيحاكمني، أسلمُ هذه البلاد كما استلمتها، لم أعط أحدًا شبرًا من تراب، أترك خدماتي لتقدير الحق تبارك وتعالى، وما الحيلة فقد أراد أعدائي أن يغطوا كل خدماتي بغطاءٍ أسود وقد نجحوا في ذلك".

تظهر تلك الكلمات حجم الشجاعة والثقة بالنفس التي يمتلكها السلطان وتفند بوضوح حججًا كثيرة سيقت لعزله، ويصنع بالإضافة لكل ما سبق دليلًا بأن السبب الحقيقي وراء شن تلك الحرب عليه يتمثل بأنه كان رجل دولة قوي، وصخرة تسد باب أطماع وطموحات كل فريق في ذلك المعسكر، هؤلاء الذين طالما رفعوا شعار الحرية والمساواة والعدالة، مع أن كل فريق من هذه الخلطة العجيبة المتناقضة أو الرفاق الأعداء كان يعادي قومية الآخر ويسعى لإظهار مفاخر قومه وعظمتهم.

فأثبتت الأيام التي تلت إسقاط السلطان أن العسكر حكموا بالحديد والنار، وأن المساواة ما كانت على الإطلاق هَمّ من حَكَم إذ سعى كل منهم لفرض لغته وثقافته على الإمبراطورية، وأن العدالة ما تحققت إطلاقًا على أيدي من كان فاسدًا وجامعًا للثروات وظالمًا في تمرده على حاكم شرعي.

ويبقى الهدف لمن تلاعب وحرض كل هؤلاء ودعمهم وجند بعضهم هو الخلاص من رجل يقف بالمرصاد لكل مخططاتهم وإحلال رجل ضعيف يكون صورة شكلية محله، وإشعال نار الفتن التي تأكل الدولة من الداخل.

تلك الرحلة الطويلة والأحداث العصيبة كان عنوانها العريض الرجل الذي استطاع تأخير الانهيار الحتمي ثلث قرن من الزمان، كان عنوانها العريض فعلًا هو البهتان العظيم، ولو كان لي أن أكتب اسمًا آخر لمسلسل عاصمة عبد الحميد لأسميته البهتان العظيم، قال تعالى: "وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا".

فالبهتان هو ليس مجرد كذب وافتراء وباطل، بل يرافق كل ذلك فظاعة تسبب الحيرة أي يصيب من يسمعه بالحيرة لفظاعته، وسُمّي البهتان بذلك لأنه يبهت الآخرين أي يسكت من سمعه عن الرد لقوته وحنكته وإحكام صناعته وتدبيره.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على من أراد الدخول في الإسلام أن يترك البهتان، فهو يعلو على الغيبة ذنبًا وعهرًا أخلاقيًا ولا يصدر عن صاحب ضمير أو خلق فلا يليق بإنسان عداك أن يليق بمسلم.

 قلما نرى بهتانًا يقع على شخص كما وقع على السلطان عبد الحميد، لذلك فإن كل إنسان إن كان من أصحاب الحس المرهف والقلب الطيب يشعر حقيقة بالتعاطف السلطان المظلوم بوجه افتراءات وبهتان أعدائه، بهتان جعلهم يحولون كل صفة حميدة فيه إلى مذمة، فحولوه من نابغة سياسي وفكري وثقافي وإداري وصاحب بعد نظر ورؤية شاملة إلى مجنون وجاهل وعدو النور وعدو العلم، وحولوه من كريم عفيف متقشف على ذاته إلى مبذر وبخيل، وحولوه من حاكم متسامحٍ ورحيم إلى طاغيةٍ سفاحٍ ومجرمٍ كبير، حولوه من رجل تقيٍ ملتزمٍ بدينه إلى فاسق، حولوه من بطلٍ إلى جبان، كل ذلك معًا شكل لوحة البهتان العظيم.

ولو أن من عارضه أو خالف تفكيره أو طريقة إدارته للبلاد أنصف بنقده واتزن بمعارضته، وأشار لمحامده وعدل في خصومته، لكان حقًا له وواجبًا عليه، فالسلطان بلا شك كسائر البشر، لا يعلو على النقد والمراجعة وتصويب الآراء فهو كغيره يأخذ منه ويرد عليه، وليس بمعصوم عن الخطأ، ولا شك أيضًا أن حكم الفرد له مخاطر كثيرة ومساوئ أكثر، وأن أساليب الحكم الحديثة وتداول السلطة والتعددية وسيادة الدستور والقانون هي الطريق السليم لرقي المجتمعات وتحضر الإنسان وتجنب الصراع المميت على السلطة، إلا أن لكل مرحلة تاريخية ظروفها التي تقاس بها ويحكم على رجالاتها من خلالها، فقد ظهر للعيان بعد سنين قليلة تلت خلع السلطان صواب رأيه وسداد فكره في تطلب تلك العواصف وجود ربان قوي يقود دفة السفينة كي لا تغرق، وأن ذنب السلطان الكبير والوحيد أنه أحب بلاده وعمل لها ولأجلها وآمن بعظمتها وبنى رؤيته بنظرة الفطن الحكيم لقادم الأيام.

وقد زودنا التاريخ بمقولات بعض أشد أعدائه ومعارضيه بعد مراجعتهم لأنفسهم لكن بعد فوات الأوان، ومنها مقولة أحد أكبر معارضيه "رضا توفيق" الذي كتب: "عندما يذكر التاريخ اسمك، يكون الحق في جانبك ومعك أيها السلطان العظيم، كنا نحن الذين افترينا دون حياء، على أعظم سياسي العصر، قلنا: إن السلطان ظالم، وإن السلطان مجنون، قلنا لا بد من الثورة على السلطان، وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان".

وما قاله أنور باشا الذي لعب دورًا مهمًا في انقلاب عام 1908م في حديث له مع جمال باشا أحد أركان جمعية الاتحاد والترقي: "أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟ وبعد تحسر عميق قال: "نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد، فأصبحنا آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية فهذا ذنبنا الحقيقي".

وما قاله أيوب صبري قائد الاتحاديين العسكريين: "لقد وقعنا في شرك اليهود، عندما نفذنا رغبات اليهود عن طريق الماسونيين لقاء صفيحتين من الليرات الذهبية في الوقت الذي عرض فيه اليهود ثلاثين مليون ليرة ذهبية على السلطان عبد الحميد لتنفيذ مطالبهم، إلا أنه لم يقبل بذلك".

أدرك تماما أن البعض سيقول إن كل هذا التفخيم وتلك المبالغة وهذه العقلية التي كتب بها هذا المقال هي مثال واضح للعقل التبريري المصاب بفوبيا نظرية المؤامرة والتعطش للخيالات الموروثة عن القائد العظيم، وأن إعمال العقل النقدي هو الكفيل بنهضة الفكر وازدهار العقل.

بالحقيقة إني أعتقد أن النقد الجدي والعميق والنافع والانقلاب على الموروث الكاذب هي عملية دحض الحجج وتفنيد الادعاءات وتفكيك صورة خداعة رسمت من أعداء السلطان المفترى عليه والدولة التي عبث بها فضاعت وأضاعت ورسمت بانهيارها معالم أزمات تدفع المنطقة ثمنها إلى الآن.

وأزيد أيضا أن سياسة التوازن التي رسمها السلطان في تعامله مع العالم ومشروعه الإسلامي للأمة بحال نجاحه، لربما كان كفيلًا لأن يقلل من احتمالات نشوء الحرب العالمية الأولى ومن ثم الحرب العالمية الثانية التي كانت نتاج للأولى، ولحقن دماء عشرات الملايين من البشر وتجنب أهوال وآلام وجروح لا تنتهي.

من ذلك الوضع كله تأتي أهمية عرض مسلسل عاصمة عبد الحميد وحساسية ما يمثل، إذ يفتت في أذهان الكثير من المتلهفين للحقيقة تراكمات من التضليل، فتلك الأهمية تضع على عاتق كادر العمل في المسلسل مسؤولية أخلاقية كبيرة بعرض الحقائق على أكمل وجه والابتعاد عن أهداف ترويجية أو تجميلية لأي كان، وتفرض مستوى عاليًا من  الموضوعية والنزاهة في كل تفصيل وحدث ودقيقة من ساعاته.

ننتظر عرض تلك الحقائق في هذا المسلسل أو قسمًا كبيرًا منها، والذي وصل للحلقة العاشرة منه، وقد أظهر قدرا كبيرا من المهنية وتوضيحًا للكثير من التفاصيل ذات الدلالات الكبيرة ورغم انتقادات لبعض التفاصيل من قبل مختصين، فلم تطَلَ هذه الانتقادات كما أعلم الجوهر حتى الآن، بل اقتصرت على بعض التفاصيل المتعلقة باللباس والتقاليد.

ختاما فإن نسب المشاهدة العالية للمسلسل تؤكد حالة التعطش لمعرفة رواية أخرى من صف السلطان هذه المرة، ليستطيع بعدها كل فرد إعمال المحاكمة العقلية، إذ إن صحة الخصومة الآن بعد سماع جميع الأطراف وليس طرفًا واحدًا فقط. وسيفتح الباب للكثير أيضا للمزيد من البحث والمقارنة وتقليب الأمور لتشكيل القناعة الحقيقية المبنية على إطلاع كامل ودقيق من مصادر شتى.

عن الكاتب

نورس العبدالله

إجازة بالقانون يعمل بالنشاط الحقوقي والإنساني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس