د. باسل الحاج جاسم - العربي الجديد

اللافت أن منفذي معظم الهجمات الإرهابية التي ضربت في أكثر من منطقة من العالم، خلال الأشهر الأخيرة الماضية، ينتمون إلى دول آسيا الوسطى، (الهجوم على مطار اسطنبول العام الماضي، والهجوم ليلة رأس السنة على نادٍ ليلي شهير في اسطنبول، ثم هجمات المترو في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وعملية الدهس في السويد أخيراً)، وهو الأمر الذي يلفت الأنظار إلى الصورة غير الواضحة لما يحدث.

تعتبر شعوب دول آسيا الوسطى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي من بين أفقر شعوب العالم، كما تميز تاريخ معظم تلك الجمهوريات بالعنف العرقي والديني والقمع السياسي، فأوزبكستان وتركمانستان من أكثر الجمهوريات انغلاقاً وشموليةً في العالم، أما طاجيكستان فقد أمضت عقد التسعينات في خوض حربٍ أهلية، وشهدت قيرغيزستان ثورتين واضطرابات عرقية. وحدها كازاخستان من بين الدول الخمس توافدت إليها الاستثمارات الدولية الكبرى في قطاع الطاقة، وبرزت دولةً مستقرّة ومزدهرة، وأعيد انتخاب رئيسها، نور سلطان نازار باييف، مراراً، ويحكم البلاد منذ 1989، حيث كان سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفياتي.

تتخذ غالبية السلطات في آسيا الوسطى إجراءاتٍ مشدّدة للقضاء على التشدّد الإسلامي، في غياب الحياة السياسية الديموقراطية، ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، يلوح خطر جديد على المنطقة، تصفه أجهزة الأمن بأنه الأكثر خطورة، في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي.

وحظرت أوزبكستان إطالة اللحى والملابس الإسلامية، وتدقق قيرغيزستان في اختيار أئمة المساجد والخطباء، أما في طاجيكستان فقد أعلن قائد القوات الخاصة في الشرطة الطاجيكية، غول مراد خليموف، نفسه عضواً في "داعش" العام الماضي، حيث هاجم الحكومة وروسيا، ويعتبر المراقبون هروب قائد قوة الشرطة الخاصة إلى التنظيم المتطرف إثباتاً على أن الوضع ليس مستقراً، كما تشير الشواهد. ووفق بعض الإحصاءات، التحق من سبعة آلاف إلى عشرة آلاف من مواطني آسيا الوسطى والقوقاز بتنظيم الدولة الإسلامية، إضافة الى إمكان تجنيد عديد من الموجودين في روسيا، ما يشكل تحدياً كبيراً لموسكو. ومن شأن أي خلل أمني أو هزيمة لهذا التنظيم في العراق وسورية أن يشكّل حاضنة ملائمة لهؤلاء العائدين من سورية إلى بلدانهم الأصلية.

فإذا تدفق العائدون، لأي سببٍ كان، إلى آسيا الوسطى، في إمكان "داعش" أن يفتح جبهةً  جديدة له هناك، وستكون أفغانستان بوابة هذا التدفق، لا سيما أنه يصعب السيطرة على الحدود بين أفغانستان وهذه البلدان الحبيسة في جغرافيتها البرية، حيث لا شواطئ لها على البحار المفتوحة.

يتميز مقاتلو آسيا الوسطى، منذ بداية ظهورهم في أفغانستان، بالمستوى التعليمي العالي، فقد شهد الاتحاد السوفياتي غياب الأمية في شكلٍ شبه كامل، حيث وصلت معدلات القراءة والكتابة إلى 97%، وهي الأعلى بين الدول الإسلامية، في مقارنةٍ مع الجارة أفغانستان، والتي لا يتجاوز فيها معدل القراءة والكتابة 30%. وجعلهم هذا الأمر يقفزون إلى مواقع متقدمة وبسرعة في معظم التنظيمات التي انتموا إليها، فهم يملكون المعرفة الكافية لصنع العبوات الناسفة، وهو ما يحتاجه "داعش" وباقي التنظيمات المشابهة.

و وفق دراسة أعدها مركز "يورو آسيا"، فإن مقاتلي آسيا الوسطى بارعون أيضاً في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، ويستخدمون ذلك لمصلحة "داعش"، (المجموعة الأساسية من الأوزبك في سورية تمتلك موقعاً إلكترونياً وقناة فيديو وحساباً على "تويتر"). ويبرع هؤلاء في استخدام المواقع المعروفة بين المتحدثين باللغة الروسية، ما يساعدهم على نشر رسائل "داعش" بين شباب آسيا الوسطى، حيث يتفشى الفقر والهجرة للعمل في روسيا في ظروفٍ سيئة، وتتميز رسائل تلك الجماعات الجهادية بالجاذبية من الناحية الدينية، وتفيد يانا بارتشوك، المتخصّصة في شؤون آسيا الوسطى، بأن "داعش" تحديداً لا يجذب هؤلاء برسالته الدينية فقط، بل أيضاً بإلاغراءات المادية.

لكن، ليس دقيقاً القول إن انضمامهم إلى هذه التنظيمات بدافع مالي فقط، فعلى الغالب معظم تلك التنظيمات يعطيهم إحساساً بأنهم ينفّذون مهام مقدّسة، (ثقافتهم الدينية تعاني من البساطة الشديدة، نظراً إلى الانقطاع عن بقية العالم الإسلامي فترة طويلة)، فأولئك ما كانوا ليقاتلوا في ساحاتٍ تبعد من بلدانهم آلاف الكيلومترات، لو لم يكن هناك مقابل مادي، لكنهم أيضاً ما كانوا ليفعلوا لولا استخدام العامل الديني، وإلا لشاهدنا مئاتٍ وربما الآلاف منهم يقاتلون في صفوف المليشيات التي تقاتل في جبهاتٍ متعدّدة انفصالية وغيرها.

ويرى خبراء أن هناك عوامل ومقومات عديدة قد تساعد في انتشار "داعش" في بعض دول آسيا الوسطى، خصوصاً أن تنظيمات وشخصيات عديدة متشددة في المنطقة (حركة أوزبكستان الإسلامية) قد أعلنت مبايعة التنظيم ودعمه.

وما تجدر ملاحظته تغيّر الأولوية بعد مبايعة معظم التنظيمات المتطرفة في آسيا الوسطى، أو حتى القوقاز، "داعش"، فبعد أن كان هدفها إقامة دولة إسلامية أو دولة الخلافة في آسيا الوسطى، وعدوّها كان الأنظمة المدعومة من موسكو، باتت أولوياتها اليوم إقامة دولة الإسلام في العراق والشام والدفاع عنها، وبالتالي عودتهم إلى بلادهم تفتح الأبواب على سيناريوات مختلفة، وقد يكون هنا مكمن قلق روسيا، فلا يخفى أن أحد أسباب التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية محاربة هؤلاء هناك، حتى لا تضطر موسكو لمحاربتهم داخل أراضيها.

يبقى السؤال الذي لم يستطع أحد الإجابة عنه بدقة، وهو كيف تمكن هؤلاء من الوصول من آسيا الوسطى إلى سورية؟ يفيد الباحث في شؤون التطرّف في طاجيكستان، إدوارد ليمون، بأن غالبية شباب آسيا الوسطى تتبع هذا الفكر الجهادي في أثناء هجرتها للعمل في روسيا، حيث تواجه ظروفاً صعبةً هناك، وهي تنتقل من هناك إلى سورية والعراق.

و وفق مسؤول في إدارة الأمن القومي في قيرغيزستان، ألتاي جعفروف، فإن ما وصل إليه من معلوماتٍ يفيد بأن "داعش" في سورية والعراق يؤمن لهؤلاء غرفهم الخاصة باعتبارهم مجاهدين، وظروف حياة أفضل بكثير من نظرائهم العمال في أماكن أخرى، في حين يتكدّسون في روسيا أحياناً في شقةٍ واحدة بالعشرات، حيث يتم احتقارهم، بل ومهاجمتهم من القوميين الروس.

يبقى القول إن شعوب دول آسيا الوسطى تعتبر من الشعوب الناطقة بالتركية، ماعدا طاجيكستان ذات الجذور الفارسية، وجميعها تلقى ثقافة روسية سوفياتية خلال تاريخ الاتحاد السوفياتي.

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس