سعيد الحاج - أخبار تركيا

لطالما كانت التحالفات السياسية بين الدول سلاحاً تدافع به عن نفسها في مواجهة الأخطار المحدقة، ولطالما تغيرت هذه التحالفات – في فترات زمنية قصيرة أحياناً – تبعاً لتبدل الأوضاع السياسية أو العلاقات بين الدول المختلفة، فيتحول الحليف خصماً والخصم حليفاً.

وفي عالمنا العربي والإسلامي، الذي يعيش أحداثاً متسارعة، تتبدل التحلفات بوتيرة أسرع من أي إمكانية للتحليل العميق الشامل، خاصة بعد الربيع العربي.

ففي فترة ما قبل الثورات العربية، كان هناك في المنطقة – تقليدياً – محوران، محور الممانعة الذي ضم إيران وسوريا وحزب الله إضافة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين ومحور الاعتدال العربي الذي ضم مصر والسعودية والأردن وبعض دول الخليج. ولأسباب كثيرة على رأسها المواقف المتكررة لكل من قطر وتركيا في دعم قضايا المنطقة والمقاومة الفلسطينية بوجه خاص فقد اعتبر الكثيرون الدولتين المذكورتين جزءاً من محور الممانعة أو امتداداً له.

بيد أن الشرارة التي أشعلها البوعزيزي في تونس لم تترك حجراً على حجر في تشابكات وعلاقات المنطقة، فتضعضع محور الاعتدال بفقدان مبارك، وتراجع محور الممانعة إثر الخلافات داخله حول الموقف من النظام السوري، ورغم ضعفهما إلا أنهما بقيا محافظـَيْن على هيكليهما الأساسيَيْن، لكن الأهم والأخطر ظهر في المشهد الإقليمي بعد الانقلاب العسكري في مصر.

ذلك أن الانقلاب كان رأس حربة الثورة المضادة في مواجهة جملة الثورات العربية وما أحدثته من تغييرات، ولذلك عادت مصر لدورها الفاعل في المنطقة لكن مع تغيير حمل إعلان وفاة المحورين بشكليهما السابقين. الآن، هناك تنسيق – إن لم يكن تعاون وثيق – بين دولتين رئيستين في كل من الحلفين السابقين، مصر السيسي وسوريا الأسد، ومن خلفهما منظومة إقليمية يبدو أن مهمتها الرئيسة بل الحصرية هي إنهاء حالة الثورات وما أتت به على المنطقة من تغييرات.

على وقع هذه التطورات، ومع الاستقرار النسبي الذي حظي به النظام الانقلابي في مصر والدعم و/أو الاعتراف الخارجي به (ولو على استحياء)، بدأت أيدي هذه المنظومة تمتد للدول الداعمة للحراك الشعبي العربي، بعد أن حجمت إلى حد بعيد الحراك نفسه. رأينا أولاً ضغطاً كبيراً على دولة قطر نتج عنه – بعد صمود مؤقت – بعض المواقف والقرارات التي اعتبرت تراجعاً منها في مقابل الضغط الخليجي، وعلى رأسها الطلب من بعض القيادات الإخوانية مغادرة البلاد.

وفي السياق المنطقي لتطور الأحداث كان علينا أن ننتظر أن تتعرض تركيا لضغوط ما، سيما وأن هناك موقفاً سياسياً وإعلامياً غربياً واضحاً ضدها منذ مدة، لكن بقي أن تكون هناك أيادٍ إقليمية ضاغطة إلى جانب هذا الجهد الدولي. كان انفتاح تركيا على مصر الثورة ثم موقفها الواضح من الانقلاب وسقف خطابها العالي والمستمر في الهجوم عليه ونزع الشرعية عنه، وآخرها من فوق منبر الأمم المتحدة، أسباباً كافية لتوجيه العديد من السهام لتركيا واردوغان تحديداً.

بدأ الأمر ببعض “المناوشات” السياسية والإعلامية، دخلت على خطها دولة الإمارات مطالبة تركيا “بعدم التدخل في شؤون مصر الداخلية” (!)، واستمرت بفشل تركيا في الفوز بمقعد ضمن الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، ثم قادت مصر موجة “معاقبة تركيا”، وقد تمظهر ذلك في حدثين مهمين تابعناهما مؤخراً:

الأول، إلغاء مصر من جانب واحد اتفاقية الخط الملاحي البحري “الرورو” التي وقعتها مع مع تركيا إبان حكم الرئيس محمد مرسي، ورفض تمديدها بعد انقضاء مدة الثلاث سنوات، رغم حرص تركيا على إبقاء الخلاف مع النظام في مصر في بعده السياسي دون التأثير على العلاقات الاقتصادية الثنائية، ورغم تأكيد العديد من الخبراء المصريين أن ذلك سيوقع خسائر في الاقتصاد المصري المتعثر إضافة إلى التأثير على سمعة مصر الاقتصادية أمام العالم في وقت تحتاج فيه إلى رفع حدها الائتماني. ومن البديهي أن إلغاء الاتفاقية سيعود بالضرر على تركيا، التي كانت قد  لجأت لهذه الاتفاقية لتأمين صادراتها نحو دول الخليج عبر الموانئ والأراضي المصرية، بعد غلق البوابة السورية أمامها.

الثاني، القمة الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص (اليونانية) التي صدر عنها إعلان القاهرة، والتي توجهت فيه السهام لتركيا بشكل مباشر، حيث أكد الإعلان على أهمية احترام الحقوق السيادية وولاية جمهورية قبرص على منطقتها الاقتصادية الخالصة ودعوة تركيا “إلى التوقف عن جميع أعمال المسح السيزمي الجارية فى المناطق البحرية لقبرص والاِمتناع عن أي نشاطات مشابهة فى المستقبل”.

ووفق خبراء فإن القمة ركزت في مجملها على ترسيم الحدود البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وأكدت على عالمية تطبيق قانون البحار وفق اتفاقية البحار الثالثة التي لم توقعها تركيا (ضمن عدة دول) حتى الآن، متمسكة بتحديد الحدود البحرية بين الدول وليس بين الجزر. في القلب من هذا الإعلان، تعطي مصر لليونان شريطاً مائياً يمتد بينها وبين تركيا ويقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخاصة بمصر، وهو ما يعتبر تنازلاً كبيراً من الأخيرة لليونان. فما الذي استفادته مصر لتقدم كل هذه التنازلات؟

يبدو أن هدف السيسي الأول من هذه القمة كان كسب بعض الشرعية الإقليمية والدولية ولذلك فقد تضمن إعلان القاهرة مديحاً ” للعملية الديمقراطية التى شهدت بالفعل إقرار الدستور المصري الجديد وعقد الانتخابات الرئاسية” والتأكيد على دعم مصر في مواجهة “الإرهاب”. لكن الواضح  أيضاً أن القاهرة كانت تسعى لمعاقبة أنقرة على موقفها الرافض للاعتراف بالواقع السياسي المصري بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، وهي ملحوظة لافتة للانتباه باعتبار أن النظام المصري يسعى لكسب الشرعية وتنفيذ سياسات كيدية ضد تركيا بتقديم تنازلات وتقبل خسائر اقتصادية واضحة تضر بمصالح الشعب المصري على المديَيْن القريب والبعيد.

الأهم والأخطر في قمة مصر الثلاثية أنها تؤسس لقيام تحالف إقليمي لن يقتصر على هذه الدول، بل يبدو أن “إسرائيل” في مركزه، حيث يعتزم الرئيس القبرصي زيارتها قريباً للترتيب لقمة ثلاثية يونانية – قبرصية – إسرائيلية. إنَّ تذكرَنا للأزمة السياسية بين تركيا و”إسرائيل” منذ الهجوم على سفينة مرمة الزرقاء عام 2010 ليعطينا فكرة واضحة عن سياقات القمتين، كما إن تذكيرنا لسياسة تل أبيب في الانفتاح على اليونان وبلغاريا وعدد من دول الجوار التركي بعد الأزمة مع أنقرة في محاولة لحصارها ربما يكون مفيداً في توقع الخطوات اللاحقة من الحلف الإقليمي الذي ما زال في تطور التشكل.

هنا، تبدو تركيا أمام ملفات وضغوط مستمرة ومتزايدة، بل ومتشابكة مع بعضها البعض، فهي أمام استحقاق عملية السلام مع الأكراد المرتبطة بالحرب في سوريا، المرتبطة بدورها في تردي العلاقات مع واشنطن مؤخراً، الأمر الذي يحاول السيسي فيما يبدو استثماره واستثمار دور مصر في التحالف الدولي لمكافحة “تنظيم الدولة” ليكسب عدة نقاط في مواجهة أنقرة، أولاً بكسب شرعية متزايدة لنظامه بعد الانقلاب، وثانياً بكسب الدعم في مواجهة ما يعتبره إرهاباً داخل مصر، وثالثاً بتكثيف الضغوط على تركيا عقاباً لها على موقفها منه.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس