أليكسي بوجولافيسكي - مجلس الشؤون الدولية الروسي - ترجمة وتحرير ترك برس

لا يمكن للمرء أن يخفق في ملاحظة سياسة أنقرة للانفتاح على أفريقيا، على الرغم من الحداثة النسبية لهذه السياسة. ويرجع ذلك أساسا إلى زيادة النشاط التركي في هذا المجال. الإحصاءات تتحدث عن نفسها، إذ أصبح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صاحب أكبر عدد من الزيارات في القارة الأفريقية من بين القادة غير الأفارقة، وكانت دول جنوب الصحراء الكبرى هي محور التركيز الرئيسي. وحتى عام 2000 كانت هذه البلدان خارج مدارات السياسة الخارجية التركية.

أجرى أردوغان 30 رحلة إلى 23 بلدا أفريقيا منذ زيارته الأولى إلى إثيوبيا وجمهورية جنوب أفريقيا عندما كان رئيسا للوزراء في عام 2005، وكانت زيارته الأخيرة في يناير/ كانون الثاني 2017 تنزانيا وموزمبيق ومدغشقر. وقد سار الرئيس التركي السابق، عبد الله غُل، على هذا النهج، فبعد زيارته كينيا وتنزانيا في عام 2009، أصبح أول زعيم تركي يزور أفريقيا.

بدأت العلاقات التركية - الأفريقية الحديثة منذ 20 عاما فقط. ووفقا لبعض المصادر،  فقد وضعت استراتيجية "الانفتاح على أفريقيا" مجموعةٌ من الدبلوماسيين ذوي البصيرة الذين خدموا في أفريقيا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. ورغم ذلك احتاج الأمر عشر سنوات لاعتماد خطة العمل الرسمية (حيث نشرت في عام 1998) وإلى سبع سنوات لبدء تنفيذها، حتى أعلنت تركيا أن عام 2005 هو "عام أفريقيا"، وقام الرئيس أردوغان بجولته الأفريقية الأولى، وفي العام نفسه منح الاتحاد الأفريقي تركيا صفة مراقب داخل الاتحاد.

التجارة بوصفها أولوية

كان اهتمام أنقرة المتزايد تجاه دول البحر المتوسط والجنوب مدفوعا في البداية بأسباب اقتصادية عامة. وقبل 30 - 35 عاما شهدت تركيا انتقالها نحو التنمية الموجهة للتصدير. وهكذا عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في عام 2002، فإنه لم يتبع هذا المسار فحسب، بل بذل أيضا جهدا لتنفيذه. وزادت صادرات البلاد أربعة أضعاف من 40 مليار دولار في عام 2002 إلى 158 مليار دولار في عام 2014.

وقد أبدت الحكومة التركية ورجال الأعمال اهتماما باحتياطيات السوق الأفريقية التي لم يلتفت إليها من قبل. في بادئ الأمر انصب الاهتمام نحو بلدان شمال أفريقيا الأقرب إلى تركيا جغرافيا وثقافيا وتاريخيا ودينيا. وقد نمت الصادرات التركية إلى هذه المنطقة من 3 مليارات دولار في عام 2004 إلى 13 مليار دولار في عام 2015. وفي وقت لاحق توجه الاهتمام الى دول  جنوب الصحراء الكبرى، ففي عام 2015 صدر الأتراك بضائع بقيمة  4 مليار دولار مقابل 750 مليون دولار في عام 2004. وأكبر عملاء تركيا هم جنوب أفريقيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، ونيجيريا، وإثيوبيا، وغانا، وكوت ديفوار.

وفي السنوات الـ15 الماضية، ارتفع إجمالي التجارة بين تركيا وأفريقيا مرتين ونصف ليصل في عام 2015 إلى قرابة  18 مليار دولار، على الرغم من أن السنوات القليلة الماضية شهدت ركودا في مؤشرات المبيعات الكلية. وخلال السنوات الـ15 الماضية وقعت تركيا اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي مع 39 دولة أفريقية واتفاقيات لحماية الاستثمارات مع 22 دولة، اتفاقيات منع الازدواج الضريبي مع 11 دولة. وارتفع عدد مكاتب المبيعات التركية في المنطقة من 4 إلى 26.

ازدادت الاستثمارات التركية المباشرة في أفريقيا بمقدار عشرة أضعاف (تراوحت وفقا لبعض المصادر بين 5 و 8 بلايين دولار)، وتركزت في المقام الأول في الشركات الصغيرة والمتوسطة (البناء، والصناعة الخفيفة، وإنتاج السلع المنزلية)، مع انخفاض ضغط المنافسة من الشركات الكبيرة من الصين. وقد اضطلع المتعهدون الأتراك حتى الآن بأكثر من 1.150 مشروعا في أفريقيا بقيمة 55 مليار دولار.

تستخدم أنقرة خطوط الطيران أداة منفصلة وفعالة لتعزيز العلاقات مع أفريقيا، ولا يمكن أن تبقى كثافة هذا النشاط دون ملاحظة. وفي حين أن الخطوط الجوية التركية لم تسير في عام 2003 أي رحلات جوية إلى المنطقة، فإن هناك في الوقت الحالي رحلات جوية إلى 51 مطارا في 34 بلدا من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ونتيجة لزيادة الرحلات الجوية ارتفع عدد السياح الأفارقة الذين زاروا تركيا من 210 ألف سائح في عام 2006 إلى 885 ألف سائح في عام 2015.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 ضيفت أنقرة أول منتدى أعمال أفريقي- تركي حضره 3000 مشارك، من بينهم  2000 يمثلون المجتمع الاقتصادي لـ45 دولة أفريقية. ووقعت عشرات العقود مع جمهورية جنوب افريقيا ونيجيريا وكينيا وغانا وزامبيا وتنزانيا ودول أخرى. إن حقيقة أن مثل هذا الحدث الكبير عقد بعد عدة أشهر من محاولة الانقلاب في تركيا يشير إلى أن أفريقيا تقف على قمة أولويات تركيا من ناحية الاقتصاد والسياسة الخارجية.

كان محور خطاب أردوغان في المنتدى سياسيا، وليس اقتصاديا. وتكررت في الخطاب عبارة المصالح المتطابقة لأفريقيا وتركيا في مجال حماية الهوية الوطنية التي تتعرض للتهديد من العولمة الغربية، والقيم الثقافية المفروضة.

المسار السياسي

والحق أن تركيا اتخذت على مدى العقد الماضي خطوات لرسم صورة عرّاب أفريقيا على الساحة الدولية. وفي عام 2008، أعلن الاتحاد الأفريقي منح تركيا صفة الشريك الاستراتيجي للاتحاد، وأن تتعهد بتحويل مبلغ مليون دولار سنويا لنشاطها. وحصلت على صفة مراقب في جميع المنظمات دون الإقليمية الأفريقية (الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، والجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي، والسوق المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا "الكوميسا"،وغيرها) وأصبحت عضوا في بنك التنمية الأفريقي من خارج أفريقيا  في عام 2008. تحاول تركيا لا أن تلعب دور حامي أفريقيا فحسب،بل تسعى أيضا إلى التأكيد على وجود أرضية تاريخية لذلك.

ويرى العديد من الخبراء أن هدف أنقرة من نشر مثل هذه المعلومات هو المطالبة بإعادة تأسيس نفوذها السياسي أو حتى سيطرتها في المنطقة، التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية وما وراءها. وبهذه الطريقة يروج الأتراك لأردوغان ولرسالة حزبه حول عودة الإسلام إلى الساحة السياسية من خلال التوسط للنخبة السياسية المحلية التي تدافع عن الأيديولوجية الإسلامية المعتدلة في البلدان الإسلامية في القارة،وخاصة في شمال أفريقيا.

وحتى وقت قريب، كانت أنقرة تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسيين على المستوى السياسي في دول جنوب الصحراء الكبرى التي لم تشعر بوجود تركيا حتى عام 2000، وهما دعم مصالح مشغلي أعمالها التجارية، وحشد التأييد لمبادرات السياسة الخارجية التركية. وكان من بين الأدوات الرئيسية لتحقيق هذين الهدفين، بصرف النظر عن الرحلات المتكررة للقيادة التركية إلى القارة، افتتاحُ عدد من مكاتب التمثيل الدبلوماسي في القارة الأفريقية. وفي حين لم تكن هناك سفارة تركية واحدة تعمل في بلدان جنوب الصحراء الكبرى،سوى في جمهورية جنوب أفريقيا في عام 1997،صار لتركيا سبع سفارات في عام 2009، ثم وزاد عدد السفارات في عام 2015 إلى 34 سفارة،إلى جانب قنصلية عامة في جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها. ووفقا للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فإن الهدف النهائي لتركيا هو أن يكون لها سفارات في جميع العواصم الأفريقية.

وثمة أداة أخرى مهمة لتحقيق هذين الهدفين تتمثل في عقد مؤتمرات القمة التركية - الأفريقية للتعاون. عقد أول مؤتمر في عام 2008 في العاصمة التركية، والثاني  في عام 2014 في غينيا الاستوائية، ومن المقرر أن تعقد القمة المقبلة في 2019. وقد آتى هذا النشاط  ثماره، حيث صوتت الدول الافريقية بالإجماع على عضوية تركيا غير الدائمة فى مجلس الأمن الدولي لعام 2009-2010 وحصلت الشركات التركية بنجاح على مناقصات حكومية.

مع بدء الألفية الجديدة بدأت  حركة الخدمة التابعة لفتح الله غولن في تطوير التعليم في العديد من دول المنطقة من خلال فتح المدارس وإطلاق البرامج الاجتماعية، ونظر إليها الأفارقة على أنها وسيلة للقوة التركية الناعمة في أفريقيا. لكن أنقرة  بدأت قبل أربع سنوات في شن حملة  لإقناع الأفارقة بعدم السماح بنشاط منظمة غولن التخريبي في بلدانهم.. ونتيجة لذلك، تم إغلاق "مدارس غولن" في تشاد وغامبيا وغينيا وموريتانيا ونيجيريا والسنغال والصومالية ونقل الإشراف عليها إلى مؤسسة معارف التركية.

ولم تنجح التدابير ذات الصلة التي اتخذتها الحكومة التركية في تنزانيا وموزمبيق ومدغشقر ضد مؤسسات غولن، لأن غالبية سكان هذه الدول مسيحيون. وفي الوقت نفسه، يشير الخبراء إلى أن النخب التنزانية والموزمبيقية  ترتبط ارتباطا وثيقا بمؤسسات غولن ولم تتخذ أي تدابير تقييدية ضدها.

ثمة عامل آخر مهم في سياسة أنقرة الخارجية يتمثل في دعمها للتنمية في أفريقيا.وتقدم وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) التي تملك مكاتب تمثيلية في 15 بلدا أفريقيا، دعما ماليا للقارة بمبلغ يزيد على مليار دولار. وتقدم سنويا نحو ألف منحة دراسية للطلاب الأفارقة للدراسة في الجامعات التركية، وتلقى 280 ألف أفريقي العلاج الطبي في مساكنهم في إطار عمل تيكا.

تعد السياسة التركية في أفريقيا مثالا جيدا على كيفية تطوير التعاون الصحيح مع دول القارة من الصفر في غضون فترة قصيرة من الزمن من خلال تحديد المهام الدقيقة وتوفير الأدوات اللازمة لتنفيذها. ولا تهدف أنقرة إلى التنافس مع الدول ذات الوزن الثقيل، مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو الصين أو الهند، نظرا لأنها، في معظمها، لا تزال تحقق أهدافها في السياسة الأفريقية. وعلاوة على ذلك، فبالنسبة لبعض الدول مثل الصومال أصبحت تركيا شريكا تجاريا واقتصاديا رئيسيا ومانحا، ويعدون تركيا أملا رئيسيا في حل الأزمة على المدى الطويل. ولهذا السبب لم يكن غريبا أن سكان مقديشو خرجوا إلى شوارع المدينة في 16 يوليو/ تموز 2016، احتجاجا على الانقلاب العسكري ضد أردوغان.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس