أحمد طلب الناصر - خاص ترك برس 

غادرت غوطة دمشق، محطتي الأخيرة في سوريا بعد هروبي المزمن وتنقّلي بين مشارق ومغارب سوريا، غادرتها في صبيحة يوم الكيماوي المشؤوم متسللاً إلى الرقة المحررة حديثاً وقتذاك، منذ أربع سنوات، لأدخل بعدها (قجق) إلى تركيا، حاملاً إرهاقي ووجعي وسنتين من الدمار وأصوات الانفجارات وصفير (الهاون) المرعب وآلاف الصور المشظاة التي ترافقني كل ليلة.

شاء القدر أن أقصد إسطنبول دون التفكير بتغييرها، فمنذ أيام شبابي الأولى أعشق المدن الكبيرة والعريقة التي تشبه دمشق، أحب التخفّي والذوبان ونسياني فيها، بعكس جميع أبناء مدينتي ديرالزور الذين يعشقون "اللمّة" والتجمّعات في المدن الصغيرة الحميمة مليئة المقاهي وبيوت الأصدقاء المتقاربة كما في عينتاب وأورفا وكيليس.

في الفاتح، أعرق أحياء إسطنبول، كانت محطتي الأولى ومكان سكني المؤقت الأول في قبو صغير "بدروم" استضافني فيه ستة شبّان، كل واحد فيهم قادم من مدينة أو بلدة سورية مختلفة عن الأخرى، من ريف حلب وإدلب واللاذقية وغوطة دمشق والدير، جميعهم مصابون ومقعدون بسبب قذائف وشظايا ورصاص نظام الأسد، خمسة منهم يشتركون في حالة الساق المبتورة وواحد فاقد البصر، وأنا "الشاذ" الوحيد، بأعضاء وحواس كاملة بينهم!

أولئك "الرفاق" كان يتوفر لديهم كل ما يرغبون به، بدءاً من الأطراف الصناعية مروراً بالطعام والشراب وأجرة المنزل وفواتيره، وصولاً إلى السجائر، وكل ذلك كان من خلال جمعيات مدعومة من قبل الأتراك.

غادرت القبو بعد أربعة أيام لأنتقل لمنزل صديق وقريب اكتشف وجودي بإسطنبول صدفة، فأبى إلا أن أرافقه إلى بيته الكائن في حي "أيوب سلطان" القريب من حي الفاتح والذي استمد اسمه من جامع وضريح الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري المتوفّى خارج أسوار القسطنطينية، إلا أن السلطان محمد الثاني حين دخل القسطنطينية فاتحاً، نقل الضريح إلى مكانه الحالي في وسط الحي، وبنى أول مسجد في إسطنبول فوقه.

 وأبو أيوب، هو الصحابي الأنصاري الذي بركت عند بيته ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بعد دخوله المدينة المنورة ليشاركه المأوى والمأكل والحقوق والواجبات.

من ذلك المنزل، بدأ مشواري العملي في التعليم بمدارس اللاجئين السوريين، فكنت أخرج منه مع خيوط الفجر الأولى لأعود عند الغروب، قاطعاً ما يقارب 50 كم يومياً في الذهاب والمجيء، فأضطر لتناول وجبتي الفطور والغداء أثناء تواجدي في المدرسة، وغالباً ما كنت أحمل بيدي بعض الأطعمة لأضعها في ثلاجة المنزل، رغم توفّر الطعام المطبوخ واللحوم والخضروات فيها، ثم أتوجّه للنوم مباشرة من شدة التعب.

أمضيت أسبوعي الأول في العمل حتى جاء يوم العطلة. استفقت متأخراً بعض الشيء وشربت مع قريبي وأخيه وزوجته القهوة، ثم طلب مني مرافقته لإحضار بعض الأغراض، كما وصف لي، من مكان قريب. وقبل خروجنا تناول من المطبخ (سفرطاس) مكوناً من أربع طناجر متوسطة الحجم مصطفّة فوق بعضها البعض. لم أُفكّر كثيراً بموضوع الطناجر المحمولة، وخرجنا نتمشى بهدوء حتى وصلنا إلى بناء بلدية "أيوب سلطان" المطلّة على خليج القرن الذهبي.

لحظة وصولنا البلدية، توجّه صاحبي نحو غرفة صغيرة تتوسط ساحة البناء، حيث أطلّ منها عامل الاستقبال مبتسماً، فأدركت أنه يعرف صاحبي، ثم عاد فدخل الغرفة وخرج حاملاً كيس مليء بالخبز التركي (الصمون) وقبل أن يناوله إياه أخذ يتحدّث معه بالتركية الممزوجة بالعربية المكسّرة وهو يشير إلي، وأنا حديث العهد في اللغة، لكني فهمت من حديثهما أن الموظف اكتشف بأني فردٌ جديد طارئ على المنزل، فعاد وتناول كيساً آخر يحوي 3 قطع أخرى من الخبز، علمت لاحقاً أن العدد الكامل أصبح 12 رغيفاً!

لم تنتهي القصة هنا، وأنا لهذه اللحظة لا أعلم ما يحصل بالضبط، وبصراحة أكثر لا أود التطفّل والاستفسار.

 سرتُ وراء صاحبي الذي دخل بناء البلدية من الخلف، فدخلت معه، وإذ بموظّف آخر يستقبلنا وهو يرتدي زيّ طبّاخ وتظهر خلفه قاعة كبيرة يتوزّع فيها أربعة طباخين أمام أفران وطناجر عملاقة تفوح منها ما لذ وطاب من روائح تكاد تشابه روائح طبخات والدتي رحمها الله. تناول الموظف الطباخ (السفرطاس) من صاحبي وراح يملأ طناجره بالأطعمة المطبوخة والجاهزة، واحدة ملأها بالحساء "الشوربة" وواحدة بالرز، والثالثة بوجبة كبيرة من لحم الغنم المطبوخ مع المرقة الحمراء، والرابعة بالسبانخ. تناول رفيقي السفرطاس، فتناولت منه كيسي الخبز، وقفلنا عائدين.

وبدون أن أسأل، بدأ صاحبي يشرح لي الأحداث في طريق العودة بعد أن لاحظ علامات الاستفهام تملأ ملامح وجهي، وقد أوجزها بما يلي: البلدية تقدّم الخبز والطعام يومياً للاجئين والضيوف الذين يقطنون الحي بمجرد التوجّه إليهم وتسجيل عدد أفراد الأسرة، ليس ذلك فحسب، بل توزّع لهم شهرياً صناديق تحوي أكياس الرز والبرغل والعدس والحمّص والسكر والشاي، والزيوت، ومعلّبات لخضار محفوظة وجبنة، والبيض والحلاوة، وزبدة الفستق والحليب الخاص بالأطفال حديثي الولادة!

المهم، طلبت في اليوم التالي من مضيفي إخباري بما يترتب علي من مصروف في المنزل، كالآجار والفواتير، فأخبرني بأن آجار المنزل يتكفّل به أحّد "أهل الخير" من معارفه الأتراك، لكني لم أصدّقه وظننت أنه يرفض مشاركتي الأجرة حياءً، حتى التقيت بـ "حسن عمجة" وهو شيخ الجامع القريب من المنزل، حين جاءنا زائراً، فعلمت أنه المقصود بأحد "أهل الخير" المتكفّل بآجار المنزل.

أمضيتُ شهراً كاملاً في منزل قريبي، كنت حينها قد قبضت مرتّبي الأول من المدرسة، وكان جيداً مقارنة بمرتبات المدارس الأخرى، بل مقارنة بدخل موظّف حكومي تركي حينها، حيث كانت المدرسة مدعومة من قبل منظمة كبيرة ومعروفة في إسطنبول وتركيا. فقررت، لتوفّر دخلي الجيد، وبسبب طول المسافة بين عملي الكائن حينذاك في حي "أسنيورت" وإقامتي في أيوب سلطان، أن أنتقل لبيت مستقلّ وقريب من المدرسة لتوفير الوقت والجهد. واستطعت بوقت وجيز الحصول على طلبي.. منزل حديث البناء مؤلف من ثلاث غرف فارغة تستوجب علي تأمين فرشها وتجهيز مطبخها بالأدوات والأجهزة اللازمة.

قضيت أول يومين لي في المنزل بعد أن اشتريت سريراً وغرفة "سفرة" وبعض أدوات المطبخ سريعة الاستخدام، وخلال اليومين المذكورين، وبينما كنت أحاول شراء الحاجيات بشكل مدروس ومنظّم كيلا أتعرّض لانتكاسة مادية أنا في غنى عنها، اتّصل بي زميل لي في المدرسة يطلب مني الحضور فوراً إلى منزله بالسرعة الضرورية القصوى. وحين وصلت إليه أبلغني بأن جاره التركي يمتلك محلاً تجارياً لبيع المفروشات يودّ منح بعضها كهدية لأحد الضيوف السوريين، على حدّ وصفه. اتصل صاحبي بجاره وأبلغه بوجودي، فحضر على الفور وانطلقنا بسيارته صوب صالة مفروشاته وطلب مني اختيار غرفة للجلوس و"طقم" طاولات وخزانة كبيرة وسجادتين وكراسي مفردة للضيوف، وبعد ذلك قام بإرسال الأغراض بسيارة النقل الخاصة بالمحل إلى منزلي، ولدى دخوله لاحظ عدم وجود ثلاجة في المطبخ، فعاد ليلاً ومعه شخصان يحملان ثلاجة مستعملة وضعاها في مكانها المخصص في المطبخ.

شهد ذلك المنزل، بعد إقامتي فيه مدة ستة شهور، ارتباطي بزوجتي، وتزامن الارتباط بعطلة الصيف التي توقف فيها الراتب وصرت أعمل في معمل للأخشاب بأجرة تكاد تسدّ أجرة وفواتير المنزل، وكذلك في بداية زواجنا أدركنا شهر رمضان المبارك. وقبل نهاية الشهر الفضيل بيومين تقريباً، حضر إلى المنزل رجلان من بلدية الحي، وعند الباب طلبا مني وثيقة إثبات شخصية كجواز سفر أو هوية، ولم يكن حينها نظام الكيملك قد طرح، وبعد أن أريتهم الجواز قام أحدهما بتسجيل الاسم في دفتر صغير أما الثاني فخرج من باب البناء ثم عاد وهو يحمل صندوقاً كرتونياً ناولني إياه، وناولني بعدها مبلغ 400 ليرة تركية وهو يبتسم ويقول: "إيي بايرام لار" (عيد سعيد) ثم غادرا. كان الصندوق يحتوي على كل ما ذكرته آنفاً ويزيد!

وفي صباح أول يوم في عيد الأضحى حضر أحد الموظفين أيضاً وهو يحمل كيساً بداخله ما يقارب 5 كغ من لحم أضحية العيد، وبعده بقليل جاء آخر يحمل نفس الكمية، وحين طرق الباب مرة ثالثة لم نفتحه كي لا نحرج الأخ الطارق برفض عطيّته، فالثلاجة لم تعد تستوعب أكثر من ذلك، وهناك من هو بحاجة أكثر منا للأضحية، كما وأن قسمًا لا بأس به من اللحم تعرّض للتلف بسبب عدم تناوله وسوء التخزين.

بعد العيد، حضر شخص آخر من البلدية يسأل إن كنت أدفع فواتير الماء والكهرباء والغاز الخاصة بمنزلي، فأجبته بالإيجاب، عندها أشار علي إن كنت غير قادر على دفعها أن أتوجه وأقدّم طلباً للبلدية كي يتكفلوا بها بدلاً عني.

كنت حينها أجهّز نفسي وزوجتي للانتقال إلى منزل آخر، بسبب انتقالي لمدرسة ثانية بعيدة عن أسنيورت. فانتقلت إلى حارة شعبية تتبع لبلدية أخرى، وبعد استقرارنا في المنزل بفترة بسيطة أدركَنا فصل الشتاء، وكان المنزل مزوداً بمدفأة تعمل على الحطب، ما يحتّم علينا شراء ونقل كميّات كبيرة من الأخشاب لاستخدامها، إلا أن البلدية قدّمت لنا 50 كيساً كبيراً من أكياس الفحم الحجري لاستخدامها طيلة أيام الشتاء، تصل قيمتها ما يقارب 1000 ليرة تركية (400 دولار آنذاك).

قضينا الشتاء في ذلك المنزل الذي رزقنا الله فيه طفلنا الأول، ثم أدركتنا مرة أخرى عطلة الصيف وتوقّف الراتب، ما اضطرني إلى العمل كـ "شيف" للطبخ الشرقي لدى إحدى الشركات العقارية الكبرى التي تتعامل مع زبائن جلّهم من العرب والخليجيين.

 وافق صاحب الشركة التركي على تسلّمي قسم المأكولات الشرقية رغم معرفته بأني مدرّس، وليس الطبخ عندي سوى هواية أتقنها منذ أيام الجامعة الأولى، لكني كنت بحاجة ماسة للعمل.

خصص لي صاحب الشركة، السيد "خليل"، مرتّباً يفوق مرتبات جميع العاملين لديه من الأتراك، وبالدولار أيضاً، رغم عملي المريح والقصير نسبياً. وبعد انتهاء فترة الصيف وبدء الدوام في المدرسة كان علي الاختيار بين عملي المريح والمربح، عند خليل التركي، البعيد عن اختصاصي في التدريس والكتابة، وبين عملي الاختصاصي المتعب والمربك بمرتّب يكاد يصل إلى نصف مرتب الطبخ، والذي يجعل ابن البلد، المدير، صاحب المدرسة، يتحكّم بمصيرنا ومصير مستقبلنا بأية لحظة.

في النهاية قررت التضحية بالراحة والمال لقاء العمل باختصاصي الذي أحب. وحين أبلغت قراري لخليل، رفض أن أترك وطلب مني الاستمرار في العمل عنده، ولكن هذه المرة في إدارة المكتب الخاص بالتسويق العقاري بعد انصرافي من المدرسة ظهراً والدوام في المكتب لثلاث أو أربع ساعات، وبنفس المرتب الذي كنت أتقاضاه في السابق!

لكني، وبعد مباشرتي بالعمل في المكانين بدأت أشعر بالتعب شيئاً فشيئاً، خاصة وأن مكان المدرسة هذه المرة أصبح بعيداً عن المجمّع العقاري الذي يضم مقر الشركة، وكذلك عن منزلي أيضاً، وحين شعر خليل بما أعاني، عرض علي السكن في إحدى شقق المجمع الذي يحوي الشركة. ولأن آجار الشقة في ذلك المجمع مرتفع جداً، طلب مني فقط دفع الفواتير والعائدات العامة دون دفع الآجار.

بعد انتقالي وأسرتي إلى المجمّع واستمراري بالعمل في المدرسة والشركة، شعرت بأني أعمل في مكان واحد فقط، واستمريت حوالي 5  أشهرعلى هذا الشكل حتى جاء منتصف الصيف الماضي وانتقال عملية التعيين في المدارس السورية من المنظمات والأفراد المتحكمين بها إلى التربية التركية، ما أجبرني على الالتزام بالتدريس وترك العمل في الشركة، ومع ذلك سمح لي خليل التركي بالاحتفاظ بالمنزل دون المطالبة بأية زيادة.

وبعد انقضاء عام كامل على إقامتي في المنزل والمجمّع قررت الخروج وتسليم المنزل لصاحبه الذي رفض استلامه أو المطالبة به، لكني شعرت بالإحراج من استمراري به على هذه الصورة.

هذا جزء بسيط وموجز بما مررت به خلال سنوات إقامتي الأربع بين الأتراك، وتتخللها العديد من التفاصيل الجميلة والرائعة التي تتطلّب منّي حفظ الودّ وتقديم الشكر لهم لقاء ما قدموه لي ولأصدقائي ولعائلتي، وأعلم جيداً بأنهم ما زالوا يقدمون لغيري، ممن يستحق من السوريين وغيرهم.

عن الكاتب

أحمد طلب الناصر

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس