د. زهير حنيضل - خاص ترك برس

شكلت الثورة السورية حدثاً زلزالياً، وصلت ارتداداته إلى واشنطن غرباً وأقاصي روسيا شرقا، فهو الحدث الذي أقحم الدول الكبرى في تفاهمات لم يكن أحد ليتوقعها، ولم تكن واردة في حسبان أكثر الساسة استقراءً للمستقبل السياسي العالمي.

أجبرت الثورة السورية الخصوم الكبار على الجلوس حول طاولة واحدة ليتباحثوا المصالح والقواسم المشتركة فيما بينهم وليضعوا تصوراً مشتركاً يحمي تلك المصالح أو يمنعها - على أقل تقدير - من التصادم فيما بينها.

السوريون والوجهة الحتمية للجوء: الحديث عن الثورة السورية لا يمكن فصله إطلاقا عن الحديث عن تركيا، الدولة الجارة التي تشكل حدود سورية معها ما يصل إلى 930 كيلومتراً تمتد من أقصى الشمال الشرقي عند المثلث الحدودي السوري - العراقي - التركي إلى أقصى الشمال الغربي على ساحل المتوسط.

وجدت تركيا نفسها مجبرة على الانخراط في المشهد السوري فتدرجت عملية الانخراط من النصح لنظام الأسد في بدايات الحراك الثوري السوري لتصل لعملية القطيعة والعداء بعد تفشي السلوك الأمني القمعي لنظام الأسد وإطلاقه العنان لطائراته ومدافعه لحصد أرواح الثائرين السوريين.

فتحت همجية الأسد تجاه الثوار السوريين كل الأبواب أمام السوريين للهرب من رحى القتل، فكانت تركيا إحدى الوجهات الحتميه للسوريين فتدفقوا إليها على شكل موجات نزوح تفاوتت من حيث الكم والنوع، لكن الطابع الغالب عليها هو الطابع الإنساني الذي شكل الوجه الحقيقي لمأساة شعب بأكمله، غير أن ذلك الوجه لا ينفي وجود فئة من السوريين هاجرت إلى تركيا لتحسين أوضاعها المعيشية، هي فئة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال التي رأت أن سورية لم تعد مكاناً آمناً لاستثماراتها فاختارت الانتقال إلى تركيا وبدء حياة تجارية أو مهنية جديدة وما يؤكد صحة الادعاء هو أن هذه الفئة سارعت لتأسيس شركات في تركيا واستصدار الأوراق الثبوتية اللازمة لاستمرارية وجودها في تركيا بعيداً عن تقلبات القوانين والاتفاقيات المشتركة المبرمة بين تركيا والاتحاد الأوربي فيما يخص اللاجئين السوريين.

وكحال اللاجئين السوريين، فقد استطاع نظام الأسد دس عناصر تابعة له في جموع السوريين، لاجئين كانوا أم تجارا أصحاب رؤوس أموال، وانتدبت مخابرات الأسد تلك الشخصيات لتكون مفاتيح العمل الاستخباراتي التخريبي في تركيا لتشويه صورة اللاجئ السوري في تركيا من جهة وللإمساك بالخيط الأمني الداخلي التركي واللعب على وتر الأمن القومي التركي وفقاً لمتطلبات الحال وبما يوافق كل مرحلة.

ولأن نظام الأسد ضليع بالعمل الاستخباراتي الخارجي المبني على التخريب، فقد جند آلاف العناصر وأرسلها إلى تركيا، يختلفون في أعراقهم وأصولهم، ويتفاوتون في درجاتهم الاجتماعية، بحيث يضمن وجود عناصر تابعة له في كل الطبقات الاجتماعية السورية المقيمة في تركيا، بما يضمن له إمكانية الأثر الفاعل في أي وقت يشاء وأي بيئة يشاء.

من بين تلك العناصر الاستخباراتية، من كانوا يوماً رموزاً في الثورة السورية، أو فلنقل متصدرين للواجهة السياسية، لنرى أشخاصاً من قبيل نواف البشير وعمر رحمون وبقية القائمة العائدة لحضن الوطن الأسدي بعد إنجاز مهمتها التخريبية على أكمل وجه.

العلاقة بين الثورة السورية وتنظيم غولن: كشفت الثورة السورية بل وفضخت تنظيم غولن، فقد كان لوصول السوريين إلى تركيا أثر كبير في تسريع عملية كشف النقاب عن مشروع غولن المتمثل بالإطاحة بالحكم الديمقراطي الشرعي المنتخب في تركيا والاستقواء بالخارج مع الاعتماد على العناصر التابعة له في صفوف الجيش وبقية مفاصل الدولة سواء.

بدأت الخيوط تتكشف وترفع النقاب عن مشروع غولن سريعاً، فقد كان المواطن السوري اللاجئ في تركيا يلاحظ ازدواجية في التعامل التركي معه سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الحكومة وقراراتها، يرى ترحيباً وحفاوةً وأخوة ليعود ليرى استعداءً وكراهية! اصطدم اللاجئ السوري في تركيا بالنقيضين، الجانب الأخوي المتمثل في قرارات الحكومة التركية والتسهيلات الضخمة التي قدمتها للسوريين في كافة النواحي الحياتية، ليفاجأ بجانب مظلم تمثل في تعطيل تلك القرارات وفقاً لأهواء فردية هنا وهناك.

كان اللاجئ السوري يشعر بحيرة كبيرة، فهو يتعامل مع نقيضين، أحدهما يفتح له ذراعيه احتضانا ورعاية، والآخر يسعى لإيذائه بكل الوسائل المتاحة! تكررت تلك الحوادث حتى تحولت إلى ظاهرة لم يعد بالإمكان تبريرها بتصرفات فردية، فقد كانت تحمل بصمة التنسيق والتدبير المسبق بل تعدى الأمر ذلك ليصل لمرحلة التعاون المشترك بين عناصر داخل المجتمع التركي واستخبارات الأسد.

تزامنت تلك الظاهرة مع الحرب التي أعلنها تنظيم غولن على النظام الديمقراطي في تركيا، تدرجاً من قضايا الاتهام بالفساد لبعض وزراء الحكومة والتي ثبت فيما بعد بطلانها، وصولاً للتشهير بالرئيس أردوغان واتهام نجله بالفساد، وصولاً للتنصت على الرئيس أردوغان في القصر الجمهوري! لم يكن من المنطقي بمكان الفصل بين ما يجري على الساحة التركية - التركية وذلك الذي يجري على الساحة السورية - التركية، بل انزاح الستار عن عمليات تنسيق مباشرة بين عناصر استخبارات الأسد في تركيا وعناصر تنظيم غولن لنرى تفجيرات إرهابية تطال المدن التركية، وعمليات اغتيال لنشطاء سوريين في الولايات الجنوبية القريبة من الحدود السورية.

دفعت تعقيدات المشهد بالجميع للتأمل في الساحة والخيوط المتقاطعة والمتوازية سواء، فمن غير المعقول أن تكون كل تلك الحوادث محص صدفة أو وليدة تنسيق ارتجالي، فمن المؤكد وجود أصول سابقة ترتكز على تخطيط عميق، ومع تتبع تلك الخيوط كان الوصول إلى صورة أولية للمشهد الخام، ذلك المشهد المعرّى من كل مساحيق التجميل السياسية، لقد كان الأمر صادماً، فاق كل التوقعات، فلم يكن بالحسبان أن تكون الأمور على هذا النحو من الدقة والتخطيط، إذ كيف لنظام يوشك على السقوط أن يدير كل تلك الخيوط في بلد مجاور بمفرده! لا بد من وجود شريك أساسي له يملك القدرة على التحرك بأريحية ويملك العناصر الفاعلة والمؤثرة في مفاصل الدولة المستهدفة.

اتضح فيما بعد مدى التنسيق بين تنظيم غولن ونظام الأسد، ولم تكن شخصيات من قبيل معراج أوزال سوى دمى لذر الرماد في العيون وحرف كل عين تتبع الخيوط عن المسار الحقيقي، أراد نظام الأسد أن يظهر الأمر على أنه تعاطف عرقي ووحدة رؤى، فسلط الضوء على معراج أوزال ليجعل المشهد محصوراً بهذه النقطة دون سواها.

بداية الحقيقة: خيوط الأسد - في تركيا - الممتدة حتى قنديل شرقاً والمرتدة حتى بنسلفانيا غربا لم تكن لتصمد طويلاً في الخفاء، فرأينا إسقاط المقاتلة الروسية وما تلاه من عزل لتركيا وتقوقع لها وكف يدها عن التأثير في المشهد السوري، لتصول وتجول عصابات قنديل في الشمال السوري وليتمدد نظام الأسد في ريف حلب مستلماً من داعش القرية تلو الأخرى والمدينة تلو الأخرى عبر مسرحيات مملة لم تكن لتنطلي على أحد.

كان التوجه لعزل تركيا، وإضعافها عبر توريطها في صراعات كبرى مع روسيا، والإبقاء على حالة التوتر الداخلي في الناتو الذي لم يف بوعوده والتزاماته تجاه تركيا الدولة العضو في هذا الحلف، مع افتعال الأزمات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، لتجد تركيا نفسها محاصرة من كل الجوانب بالتوازي مع تأجيج الشارع التركي ضد الحكومة التركية عبر حوادث هنا وهناك، تنوعت ما بين ادعاءات بقمع لحرية الرأي وصولاً للاتهام المباشر بالفساد!

ضربة معلم: كان المخطط محكماً بحيث يتم إسقاط النظام الديمقراطي في تركيا بأقل الخسائر الممكنة، لكن الالتفاف التركي على العزلة التي فرضت عليه وحله للأزمة مع روسيا فتح الباب لتركيا لتعود مجدداً للساحة السورية من بوابة الشمال، فدخلت القوات التركية لتحارب داعش في مدينة الباب ولم يقتصر الأمر على هذا النحو بل تعداه للتغطية الجوية الروسية لهذا الدخول وإن كان عبر طلعات قليلة، فالعبرة في الكيف لا الكم.

كان للدخول التركي مجدداً إلى الساحة السورية أثراً ارتدادياً محبطاً للتعاون ما بين الأسد وغولن، فكان لا بد من قطع دابر هذا الدخول عبر إعادة الأمور إلى نصاب القطيعة بين روسيا وتركيا، فكانت حادثة اغتيال السفير الروسي في تركيا، التي اتضح فيها بعد أنها من تدبير تنظيم غولن.

كان للتفاهم التركي - الروسي قيمة كبيرة في وأد هذه المحاولة في مهدها، بل تحاوز الأمر وأد هذه المحاولة إلى رفع درجات التنسيق بين أنقرة وموسكو والذي تجسد في "أستانا" عبر تنسيق مباشر بين العاصمتين.

بداية النهاية: بعيداً عن الجانب الاقتصادي المهم في العلاقات بين الدول، فقد استطاعت أنقرة أن تكسر طوق العزلة لتعود أقوى مما كانت في المشهد السوري مما أثار حفيظة المتضررين، فكان القرار بتقديم التوقيت المحدد للانقلاب، والذي كان ضربة المعول الأخيرة التي بحوزة غولن وداعميه وحلفائه.

شاءت إرادة الله أن تتكشف خيوط الانقلاب قبل وقوعه، ولم يأت الأمر محض صدفة، بل نتيجة تتبع مستمر وطويل ومضنٍ، أتاح للاستخبارات التركية أن تجعل الانقلابيين يسارعون لتقديم موعد انقلابهم لتضربهم وهم في حالة ذهول.

ساعات قليلة كانت كفيلة بإماطة اللثام عن مخططات استخباراتية تحتاج لسنين في الحالات العادية ليتم اكتشافها، لقد أحرجت عملية الانقلاب الفاشلة دول كبرى وأخرى إقليمية خططت لهذا الانقلاب ودعمته ومولته، كان الارتباك سيد الموقف فانتظرت تلك الدول حتى صباح اليوم التالي لتسارع لتدعي وقوفها إلى جانب الدولة التركية والإرادة الشعبية الديمقراطية.

لم يكن من الممكن بعد أن تكشفت كل الحقائق، أن تبقى الأمور في ساقية الهدوء، فكان أن لجأت الدول المتضررة إلى بوابة اتهام تركيا بالتصعيد المتعمد وتوسيع دائرة الاعتقالات للخصوم، وقد نسيت تلك الدول أن هذه الاعتقالات مبنية على الوثائق المثبتة، وأن للدولة الحق في إلقاء القبض على كل من يهدد أمن الدولة وكيانها وديمقراطيتها، خاصة إن كان عميلاً لدول أخرى! يكفي المرء أن يعود بالذاكرة للوراء، ليرى تصرفات الدول تجاه تركيا بعد إحباط محاولة الانقلب الفاشلة، ليصل لاستنتاج يوضح له علاقة تلك الدول بتركيا، ومخططات تلك الدول تجاه تركيا، والتي رأيناها في مرحلة ما بعد الانقلاب من تصعيد سياسي هنا، ودعم غير مشروط بآلاف الشاحنات من السلاح لعصابات قنديل في الشمال السوري، ومن افتعال للأزمات الدبلوماسية مع تركيا.

شريكان في المصير: المؤكد، أن الحليفين غولن والأسد يمضيان لمصير واحد، فمهما حظيا بالدعم، فالغطاء إلى زوال عن كليهما حين يدرك الداعم لهما أنهما ورقتان خاسرتان تم استهلاكهما بالكامل، ولم يعد بالإمكان الاحتفاظ بهما، لتتم التضحية بهما قرباناً على مذبح التفاهمات بدلاً من الاحتفاظ بهما عبئاً زائداً لا قيمة له.

عن الكاتب

د. زهير حنيضل

طبيب و أديب و معارض سوري مستقل


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس