د. زهير حنيضل - خاص ترك برس

نعم، مر حينها طريق القدس بموسكو عبر طهران، مرورًا لم يكن عابرًا، بل مؤسسًا حقيقيًا للكيان الصهيوني على الأرض العربية الفلسطينية، ومعلنًا بذلك أن الطريق يمر تكرارًا ومرارًا عبر موسكو.

شبه جزيرة القرم وطن قومي لليهود:

بعد الحرب الأهلية في روسيا عام 1917 كان لا بد من إعادة إعمار البلاد، فوجد لينين ضالته في اللجنة الأمريكية اليهودية التي تأسست عام 1914 وكان هدف تأسيسها تقديم الدعم ليهود أوربا الشرقية.

وافق لينين على العرض الذي قدمته له اللجنة الأمريكية اليهودية والذي ينص على:

رهن 375 ألف هكتارًا من أراضي شبه جزيرة القرم مقابل شراء صكوك مالية بقيمة 20 مليون دولارًا أمريكيًا وبفائدة قدرها 5% ويتم سداد الأموال اعتبارًا من عام 1945 بمقدار مليون ونصف المليون دولار سنويًا.

بعد موت لينين خلفه ستالين في الحكم، واستمر ستالين على نهج لينين، وقام في عام 1929 بالتوقيع مع الوكالة اليهودية على الاتفاقية التي تنص على إنشاء "كاليفورنيا القرم".

بيروبيدجان عاصمة أول كيان صهيوني

كانت الدلائل تشير إلى قرب إعلان جمهورية القرم السوفيتية "اليهودية" التي كان العمل عليها جاريًا على قدم وساق من قبل السوفييت تنفيذًا لالتزاماتهم التي قدموها للأمريكان بتحويل شبه جزيرة القرم إلى وطن قومي لليهود.

إلا أن ستالين شعر بخطورة الأمر وأدرك أن أمريكا تسعى لمحاصرة الاتحاد السوفياتي في البحر الأسود فسارع إلى إعلان إنشاء "مقاطعة الحكم الذاتي اليهودي" على ضفاف نهر "أمور" محاذاة للحدود الروسية - الصينية في أقصى شرق روسيا بدلًا من شبه جزيرة القرم، مبررًا ذلك بأن الاستمرار في المشروع سيخلق صراعًا قوميًا بين مكونات الاتحاد السوفياتي في شبه جزيرة القرم، خاصة بعد الاحتجاجات العارمة التي عمت شبه الجزيرة ضد التجار اليهود.

تبلغ مساحة منطقة الحكم الذاتي اليهودي قرابة 36000 كيلومترًا مربعًا، عاصمتها هي مدينة بيروبيدجان، وهي لا تزال حتى يومنا هذا قائمة كمنطقة حكم ذاتي يهودي في روسيا.

مؤتمر طهران و الضوء الأخضر السوفيتي لليهود

في أتون الحرب العالمية الثانية، وبعد مماطلة طويلة من قبل ستالين، كان اللقاء مع الرئيس الأمريكي روزفلت في مؤتمر طهران الذي عقد في الفترة ما بين 28 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 1 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1943 بمشاركة ستالين وروزفلت وتشرشل.

كانت مماطلة ستالين متعمدة من قبله، انتظارًا لميلان كفة الحرب لمعرفة من المنتصر النهائي، فقد كان ستالين يجيب على طلب الأمريكان اللقاء به بأنه مشغول على جبهات القتال.

ويؤكد المؤرخون الروس أن ستالين لم يزر جبهات القتال سوى مرة واحدة ومرورًا عابرًا على عجل، بينما كان يماطل في لقاء الأمريكان كسبًا للوقت لتتضح صورة الأطراف الخاسرة والرابحة في الحرب العالمية الثانية.

عاد اللوبي اليهودي لفكرة أن تكون شبه جزيرة القرم وطنًا قوميًا لليهود فمارس الضعوطات على ستالين عبر القيادة الأمريكية، فعلى هامش مؤتمر طهران أبلغ الرئيس الأمريكي روزفلت نظيره ستالين بأن اليهود يمارسون الضغوط عليه لإعادة مشروع شبه جزيرة القرم تنفيذًا للالتزامات السوفيتية السابقة واستئناف عملية ترحيل تتار القرم.

وقام روزفلت بتهديد ستالين بوقف برنامج "ليند - ليز" في حال عدم التزام الاتحاد السوفياتي تجاه المطالب اليهودية.

وفيما يخص "ليند - ليز" فهو برنامج أمريكي تم إقراره في الكونغرس عام 1941 وينص على تقديم الدعم الحربي والغذائي والمواد الخام ومواد الطاقة إلى حلفاء أمريكا في الحرب العالمية الثانية، ومن المعلوم أن الاتحاد السوفياتي كان يعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، حيث وثق المؤرخون الروس أن ثلث إجمالي مخزونات الطاقة "وقود للدبابات والطائرات" كان يأتي بهيئة دعم مباشر من أمريكا كما أن الدبابات الروسية كانت تعتمد على القطع الأمريكية في صناعتها ابتداء بالهيكل الخارجي ومرورًا بالسبطانة والحشوة المتفجرة.

كما أن أمريكا ساهمت بنسبة الثلث في عتاد الدبابات المنتشرة على الجبهة السوفيتية الغربية ضد الألمان.

مناورة ستالين

وجد ستالين نفسه محشورًا في الزاوية فقرر المراوغة، فأبدى استعداده للالتزام بمشروع الوطن القومي لليهود في القرم "كاليفورنيا القرم" على أن نكون جمهورية سوفيتية تتمتع بحكم ذاتي وليس جمهورية مستقلة وأصر على أن يكون "لازار كاجانوفيتش" اليهودي الأوكراني رئيسًا لهذه الجمهورية بدلًا من الاسم الذي طرحه الأمريكان وهو "سولومون ميخيلسون" وهو رئيس اللجنة اليهودية الروسية المعادية للفاشية.

ذهب ستالين إلى أبعد من ذلك فطلب من أمريكا قرضًا بمقدار 10 مليار دولار لإعادة بناء الاقتصاد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وافق اليهود على كل طلبات ستالين، ولكن اليهود عادوا ليطالبوا ستالين بدفع الديون المترتبة على الاتحاد السوفياتي وأدرك ستالين حينها أنه في مأزق حقيقي ويتوجب عليه الالتزام بما تم الاتفاق عليه مع الأمريكان ومن خلفهم الوكالة اليهودية صاحبة الديون وأن عدم التزامه يعني تسليم شبه جزيرة القرم لليهود الأمريكان، وبالتالي خسارة شبه الجزيرة وأكبر قاعدة عسكرية سوفيتية في البحر الأسود وهي قاعدة "سيفاستوبول" الواقعة جنوب القرم مما يمهد للتوسع الأمريكي في البحر الأسود وبالتالي للهيمنة الأمريكية عليه.

أبلغ ستالين الأمريكان بأنه مستعد لتنفيذ التزاماته إنما في فلسطين وليس في شبه جزيرة القرم.

العرض السوفيتي للأمريكان

ازدادت الضغوط الأمريكية على ستالين مطالبة بتسديد القروض المتراكمة على الاتحاد السوفيتي لصالح الوكالة اليهودية، مما دفع ستالين ليعرض على الأمريكان استعداده التام لإقامة وطن قومي لليهود إنما في فلسطين وليس في شبه جزيرة القرم.

وعرض ستالين على اللجنة اليهودية الأمريكية تحقيق ذلك عبر تهجير أكبر قدر ممكن من اليهود الروس إلى فلسطين وتسليحهم بما اغتنمه الروس من الحرب العالمية الثانية من أسلحة كجزء من سداد للديون المترتبة على الاتحاد السوفيتي، وبالفعل أوعز ستالين إلى  بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا بإمداد اليهود في فلسطين بكل ما يحتاجونه من سلاح.

وحين إعلان قيام الكيان الصهيوني على الأراضي العربية الفلسطينية عام 1948 كان الاتحاد السوفياتي أول دولة تعترف به رسميا.

عن الكاتب

د. زهير حنيضل

طبيب و أديب و معارض سوري مستقل


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس