رمزي بارود - ي آر تي الدولية - ترجمة وتحرير ترك برس 

عندما ألقى مرشح الرئاسة الجمهوري، دونالد ترامب، خطابه الشهير أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) في آذار/ مارس 2016، كشف عن حقيقته السياسية، فوفقا لمعايير  واشنطن، كان "سياسيا جيدا"، مجردا من أي قيم.

قدم ترامب في خطابه وعودا كثيرة لإسرائيل. ولم يكن بمقدور الحشد الكبير الذي استمع إليه أن يخفي تأثره. نادرا ما تكون مؤتمرات إيباك منبرا للتفكير العقلاني، بل هي عبارة عن محبة غير مخفية ومتواصلة لإسرائيل فقط، وقد عرف ترامب كيف يتحدث بلغتهم.

من بين كثير من الادعاءات الكاذبة والوعود الخطيرة التي أدلى بها ترامب، برزت فقرة  تقدم أدلة مبكرة على ما ستبدو عليه سياسة الإدارة المستقبلية بشأن إسرائيل وفلسطين.

ولم تكن الإشارات التي قالها ترامب مبشرة: "عندما تقف الولايات المتحدة مع إسرائيل، فإن فرص السلام ترتفع وتزداد أضعافا مضاعفة، وهذا ما سيحدث عندما يكون دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة". وعندما أدلى ترامب بهذه الكلمة المخادعة، سبقه تصفيق حاد، وتبعه هتافات الفرح والابتهاج.

قال ترامب: "سننقل السفارة الأمريكية إلى العاصمة الأبدية للشعب اليهودي في القدس". فأصبح مزيج الهتاف والتصفيق يصم الآذان. وقال أخيرا: "يجب على الفلسطينيين أن يأتوا إلى طاولة المفاوضات، وأن يعلموا أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل غير قابلة للكسر على الإطلاق"، وعندئذ بلغت نشوة الحشد ذروتها.

على أن الحقيقة هي أن الحب الذي أصبح ترامب يكنه لإسرائيل حديث إلى حد ما، فقد أصدر في الماضي عدة تصريحات أغضبت إسرائيل وداعميها الأقوياء في الولايات المتحدة. ولكن عندما زادت فرصه في أن يصبح المرشح الجمهوري، دفعته رغبته إلى أن يقول أي شيء ليحظى بموافقة إسرائيل.

والآن بعد أن أصبح  ترامب رئيسا محاصرا، حيث إنه فقد الأمل في الحفاظ على دعم الدائرة نفسها التي أدخلته إلى البيت الأبيض في المقام الأول، بينما ما يزال الجناح اليميني المحافظ والمسيحية الإنجليكانية من الركائز الأساسية التي تدعمه في رئاسته المضطربة.

ولذلك ففي الرابع من كانون الأول/ ديسمبر، بدأ ترامب يتصل بالقادة العرب هاتفيا، ويبلغهم قراره الإعلان عن تحرك أجل لعدة سنوات،وهو نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.غضب العرب، لأن مثل هذه الخطوة ستؤدي بالتأكيد إلى المزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة التي أدخلت في مسار مدمر لسنوات. وكانت الاضطرابات التي شهدتها المنطقة نتيجة سياسات الولايات المتحدة المضللة التي تستند إلى حروب لا مبرر لها ودعم أعمى لإسرائيل.

وعلاوة على ذلك، فإن الدول الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تعاني من الصراع المستمر، والانقسامات الداخلية، وشعور متزايد بأن أمريكا قد تخلت عنها.

إن إعلان ترامب أن القدس عاصمة لإسرائيل، يعني أن حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط قد أزيل. ولا يمكن الحديث عن "حل الدولتين"، و"دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية"، وكل الشعارات والكتابات الأخرى التي حددت الخطاب السياسي الأمريكي في المنطقة لعقود.

والأسوأ من ذلك أن قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338 اللذين يطالبان إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها منذ حرب 1967، كانا ركيزة للنهج الأمريكي تجاه ما يسمى "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي" منذ عام 1967.

ومنذ ذلك الحين، أقر القانون الدولي وجميع الدول المرتبطة بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل بأن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة.

إن قلب الولايات المتحدة لوجهة نظرها حول وضع القدس يعني انقلابا تاما لسياسة الولايات المتحدة القائمة منذ مدة طويلة، ليس فقط فيما يتعلق بتعريفها العملي لصنع السلام، بل لسياستها في لشرق الأوسط بأسره، حيث كانت تأخذ في الحسبان أن فلسطين وإسرائيل كانتا في قلب معظم صراعات المنطقة.

عندما أعلن ترامب عن نواياه نقل سفارة بلاده إلى القدس في مارس 2016، بدا وكأنه يتحدث مثل أي سياسي أمريكي يعطي وعودا كبيرة لا يمكن الوفاء بها.

على أن هناك عوامل تجعل قرار نقل السفارة في الوقت الراهن خيارا جذابا لإدارة ترامب. تعاني الولايات المتحدة حاليا من عدم استقرار سياسي غير مسبوق واستقطاب. ويزداد الحديث عن إقالة الرئيس زخما، بينما يجري التحقيق مع مسؤولين في إدارته حول ادعاءات مختلفة، بما فى ذلك التواطؤ مع قوى أجنبية بما فيها إسرائيل.

وفي ظل هذه الظروف، ليس هناك قرار أو قضية يمكن لترامب تناولها من دون أن يجد نفسه في عاصفة سياسية، باستثناء قضية واحدة: إسرائيل.

تاريخيا وحّد تأييدُ إسرائيل الحزبين الرئيسيين في الكونغرس الأمريكي ووسائل الإعلام وكثيرا من الأمريكيين وفي مقدمتهم قاعدة ترامب السياسية. وعندما أصدر الكونغرس قانون نقل  السفارة إلى القدس في عام 1995، وهو ما يعد انتهاكا لدوره التشريعي، كان اهتمام ترامب في السياسة عشوائيا وشخصيا تماما.

وقد ذهب الكونغرس الأمريكي إلى أبعد من ذلك. ففي محاولة للي ذراع البيت الأبيض، أضاف الكونغرس إلى قانون نقل السفار فقرة تنص على منح الإدارة مهلة حتى أيار/ مايو 1999 لتنفيذ القانون أو مواجهة خفض ميزانية وزارة الخارجية بنسبة 50 في المئة المقررة "لشراء وصيانة المباني فى الخارج".

كان الإنذار مستحيلا. وكانت الولايات المتحدة قد وضعت نفسها آنذاك "وسيطا صادقا للسلام" في عملية السلام، وهو إطار سياسي حدد السياسة الخارجية الأمريكية برمتها في الشرق الأوسط. ولتجنب انتهاك التشريع الذي أقره الكونغرس والحفاظ على خيط، مهما كان رقيقا، من المصداقية، وقع كل رئيس أمريكي قرارا بتأجيل تنفيذ القرار 6 شهور، مستغلين ثغرة في القانون تسمح  للبيت الأبيض بتأجيل نقل السفارة.

وفي أعقاب خطاب ترامب أمام إيباك، سرعان ما بدا أن تعهده بنقل السفارة كان مجرد رعونة وانتهازية.

ولكن هذا التقييم، كما هو الحال مع الكثير من تصرفات ترامب، كان تقييما خاطئا، إذ بدأ التواطؤ بين فريق ترامب وإسرائيل حتى قبل أن يدخل المكتب البيضاوي، وعملا معا على تقويض جهود الأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2016 لإصدار قرار يدين استمرار إسرائيل في الاستيطان غير المشروع في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس.

وتكشف أسماء الأفراد المرتبطين بسياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل عن حجم الطبيعة المسيحانية المرتقبة للحكومة. وقع اختيار ترامب على ديفيد فريدمان، المعروف بمحامي الإفلاس لتمثيله ترامب في قضية إفلاس فنادقه في أتلانتيك سيتي، سفيرا لأمريكا في إسرائيل، وعين جيسون غرينبلات، ممثلا خاصا مكلفا بالمفاوضات الدولية في الشرق الأوسط  ويعرف الرجلان بآرائهما المتطرفة المؤيدة لإسرائيل، وهي آراء تنظر إليها وسائل الإعلام الأمريكية على أنها آراء خطيرة.

واختار ترامب جاريد كوشنر، صديق رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، لقيادة جهود السلام في الشرق الأوسط. ولذلك فمن الواضح أن تفاني ترامب لإسرائيل ليس عابرا.

وبقبوله ضم إسرائيل غير المشروع للقدس الشرقية المحتلة، وبدعمه إسرائيل دون قيد أو شرط وضع ترامب حدا للمناورة السياسية الأمريكية التي استمرت لعقود، وتتظاهر بأنها وسيط محايد ونزيه. وعلى الرغم من أن تحركه يهدف إلى استرضاء إسرائيل وحلفائها الأمريكيين فى الحكومة وقاعدته من الأصوليين والمحافظين، فإنه يسقط القناع الذي ارتداه جميع الرؤساء الأمريكيين منذ عقود.

وإذا كان قرار ترامب سوف يخل بالتوازن السياسي الدقيق في الشرق الأوسط، فإنه لن يلغي القانون الدولي ولا يقلبه، لكنه يعني ببساطة أن الولايات المتحدة قررت التوقف عن الادعاء بأنها وسيط نزيه، وقررت السير في المعسكر الإسرائيلي، وعزل نفسها عن بقية العالم بتحديها الصريح للقانون الدولي.

إن إقدام الولايات المتحدة على هذا الإجراء، سيلغي على نحو غريب، الدور المتناقض الذي رسمته لنفسها في السنوات الخمسين الماضية، وهو دور صانعي السلام.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس