د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

أصدرت وزارة التّعليم في تركيا قرارا يقضي بجعل تعليم اللّغة العثمانية إجباريا في المدارس الثانوية للأئمة والخطباء بينما يبقى اختياريّا في المدارس الأخرى. واللغة العثمانية هي التّركية القديمة، أيّ التّركية التي كانت تُكتب بالحروف العربية، ثم بعد أن وقع إلغاء الخلافة حدث ما أطلق عليه "ثورة الحروف" فتم تغيير الحروف العربية لتحل محلّها الحروف اللاّتينية. وبسبب هذه "الثّورة" وجد الشعب نفسه بين ليلة وضحاها منقطعا تمامًا عن تاريخه وحضارته، فجأة أصبح الطالب ممنوعًا عليه تعلّم لغته التي ولد عليها ونشأ وترعرع في حُضنها. وقال أردوغان في اجتماع للمجلس الشرعي التّركي "يوجد أشخاص لا يتمنون أن تُعلم العثمانية وتُدرس، وبغض النظر عما إذا كانوا يريدون هذا الأمر أم لا فالعثمانية ستُدرس وتُعلم في هذه البلاد."

إنه من غير المعقول أن يبقى التّركي جاهلا بما هو مكتوب على شواهد قبور أجداده.

هذا القرار أثار ردود أفعال قوية من قبل المعارضة العلمانية التي اعتبرت هذه الخطوة مؤشرا خطيرا على الارتداد عن قيم الجمهورية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك مؤسس جمهورية تركيا الحديثة. وقال عاكف حمزة شيبي المتحدث باسم حزب الشّعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان "إنّ اهتمام أردوغان لا ينصبّ فقط على اللغة العثمانية، إنّ هدفه الرّئيس هو تصفية الحسابات مع العلمانية والجمهورية"، وأضاف إنّ "أردوغان يريد في الواقع إحياء الأبجدية العربية في تركيا." عبد اللّطيف شنار نائب رئيس الحكومة الأسبق قال إن العودة إلى تعليم العثمانية للطلاب في تركيا يعد هجمة خطيرة على الجمهورية التركية ومن الضرورة التراجع عنها سريعا، لكن الحكومة التركية ردّت بأنه سوف يتم تطبيق هذا القرار دون النظر إلى الأصوات الرّافضة باعتباره يخدم المصلحة الوطنية التّركية.

قرار تدريس العثمانية لطلاب الثانويّة في غاية الأهمية ولذلك أثار لغطا كبيرا في الأوساط السّياسية والفكريّة في تركيا، وهو مهم للأسباب التالية:

سوف يتكون في تركيا فريق كبير من البَاحثين والمفكرين والمؤرخين يكون بإمكانه النّفاذ إلى مصادر المعلومات؛ من أرشيفات وصحف وكتب مكتوبة باللّغة العثمانية، والتي ظلت لمدة عقود مجهولة لا تُعرف محتوياتها. ولعلّ ما ذكره الأديب والروائي التركي الشهير بيامي صفا (1899م – 1961م) قبل عدة عقود يصف حالة الشباب التّركي وحاجتهم إلى تعلم لغة أجدادهم، يعبر بعمق عن هذا الانفصام الذي حدث بين الأجيال وبين تاريخها حيث يقول: "اليوم الشابّ التّركي في العشرينات من عمره لا يستطيع أن يقرأ "نعيمة" (مصطفى نعيمة، مؤرخ عثماني حلبي) و"فضولي" (محمد بن سليمان، شاعر عثماني عرف بلقب فضولي) وتاريخ "جودت باشا" (أحمد جودت باشا، رجل دولة ومؤرخ وأديب عثماني) من نسخها الأصلية، ولا يفهمها حتى وإن تمّ تحويلها إلى اللّغة الجديدة، ويدور ذلك المسكين بين هذه الآثار كسائح أعمى يتجوّل بين آثار إسطنبول التاريخية الشامخة. لا يعرف ولا يحب تاريخه وأجداده ولغته وأدبه. وبمعنى آخر لا يعرف ولا يحبّ نفسه".

فمثلا الشّاعر الوطني الكبير محمد عاكف حين كتب النشيد الوطني التركي "استقلال مارشي" أي "نشيد الاستقلال" لم يكتبه باللغة التركية الجديدة، بل كتبه باللغة العثمانية، وتم تحويل كتابته فيما بعد إلى الحروف الجديدة إلا أنه يحتوي على كثير من الكلمات التي لا يعرف معناها جيل اليوم. وكذلك تراث الماضي القريب والكتب التي ألفت - على سبيل المثال - في القرن التاسع عشر الميلادي في التاريخ والأدب لا يستطيع أن يقرأها ويفهمها إلا من يعرف اللغة العثمانية.

الاطلاع على المخزون الضخم من المصادر التي تمتد على مساحة زمنية قدرها نحو 600 عام سوف تحدث حركية علمية غير مسبوقة في الأوساط الجامعية والبحثية والثقافية في تركيا، سواء في مجال التاريخ أو الأدب أو العلوم الإسلامية أو حتى في الدراسات السياسية وغيرها.

بالاطلاع على هذه الكنوز المعرفية المتراكمة سوف تنكشف حقائق كثيرة مازال الغموض يلفها، وتتضارب حولها الآراء مثل كيفية قيام الجمهورية التركية نفسها والرجّة العنيفة التي أحدثها الانتقال إلى الحروف اللاتينية، ورفض الكثير من العلماء والمفكرين هذا الإجراء، وما أعقب ذلك من محاكمات وتكميم لأفواه المعارضة بشكل كلّي، هذا بالإضافة إلى معرفة ملابسات عملية إلغاء الخلافة العثمانية نفسها وطي صفحتها.

تعلم اللغة العثمانية سوف يسهّل على الأجيال القادمة تعلم اللغة العربية كذلك، فهما مترابطان ترابطا قويّا، وبالتالي سوف يفتح أعين الطلاب على المصادر العربية كذلك، وهذا يعدّ بالنسبة إليهم إضافة نوعية من الناحية العلمية. فكما يقول المثل التّركي "بِر لِسان، بِرْ إنسان" بمعنى "تعلّم لسان يصنع منك إنسانًا جيدًا". كما أن تعلم العربية سوف يفتح آفاق الأجيال القادمة ويجعل التواصل مع الشّعوب العربية أسهل وأقوى، فيزيد الترابط الاجتماعي والدّيني بينها.

 إذن القرار الذي اتخذته الحكومة التركية بتعليم اللّغة العثمانية له تأثير استراتيجي على مستقبل الأجيال التركية القادمة من النواحي الفكرية والثقافية والنفسية والروحية، وحتى السّياسية، ولذلك قوبل برفض شديد من قبل بعض الأوساط المحسوبة على المعسكر العلماني لأنها تعتبر هذه الخطوة سحبا للبساط من تحت أقدامها، وترى فيها تمهيدا لصناعة أجيال جديدة أكثر التحاما بتاريخها وحضارتها ومحيطها الإسلامي الواسع.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس