ترك برس

خلال السنتين الأخيرتين تغيرت العلاقات بين أنقرة وموسكو تغيرا جذريا، وعزز تأثير الأوضاع في سوريا فضلا عن محاولة الانقلاب العسكري الساقط في تركيا في عام 2016 من العلاقات الثنائية. ولكن التطورات في القوقاز بوصفها ساحة استراتيجية مهمة لم تحظ بالتغطية الكافية، وتبدو محصورة في دائرة مغلقة بين الخبراء الإقليميين.

وفي هذا الصدد يقول فيليب روير، الباحث السابق في معهد السياسات الأمنية في جامعة كيل الألمانية إنه على الرغم من تعدد  المسارح الإقليمية للتفاعلات الاستراتيجية البناءة بين روسيا وتركيا في هذا العقد، فما تزال القوقاز واحدة من أكثر المسارح الجوهرية فيما يتعلق بتطوير علاقاتهما، حيث تولي البلدان أهمية خاصة لمنطقة جنوب القوقاز، ولا سيما بعد الحديث عن الطرق التجارية على طول طريق الحرير والوصول إلى النفط والغاز في حوض بحر قزوين.

أهمية القوقاز

وحول أهمية القوقاز لكلا البلدين يشير روير إلى أن روسيا تقر صراحة بأن لها الحق في التدخل للدفاع عن مصالحها ومواطنيها في كل منطقة  تدخل في تعريف المناطق الخارجية القريبة، ولذلك غالبا ما تصور موسكو مصالح روسيا في جنوب القوقاز بوصفها مسائل ملحة. ولكي تعزز روسيا صورتها كقوة عالمية يتعين عليها أن تحتفظ بهيمنتها العسكرية العسكرية والاقتصادية على الجمهوريات الثلاث المستقلة في القوقاز.

أما تركيا فتحدد منطقة القوقاز بوصفها منطقة ذات أهمية خاصة، وإن كانت أقل صخبا في التعبير عن ذلك ولا تستخدم القوة في سبيل تحقيق أهدافها. وترتبط تركيا، مثل روسيا، بعلاقات تاريخية مع القوقاز التي تؤثر في الساحة السياسية الداخلية، وخاصة فيما يتعلق بالصراع الأذربيجاني الأرمني. وهذا يوفر الحوافز الاستراتيجية التي ينبغي أن تكون نشطة في القوقاز. ولذلك، تحاول تركيا تعزيز نفوذها في المنطقة، على الرغم من أن الهيمنة الكاملة ليست بالضرورة هدفا استراتيجيا لأنقرة.

التحالفات والقواعد العسكرية

وفيما يتعلق بالمصالح الأمنية، يؤكد روير أن تضاريس القوقاز لا تسمح بالمكاسب الهجومية السريعة. ولذلك، فإن القوات العسكرية المتمركزة في المنطقة لا ينظر إليها على أنها تهديد مثل نشر قوات في شمال أوروبا. ولكن من مصلحة روسيا أن تكون القوة الوحيدة التي لها وجود عسكري في القوقاز من أجل تأكيد نفوذها الخاص. وفي الوقت نفسه، فإن وجود قدرات عسكرية جاهزة في المنطقة سيكون أيضا رصيدا استراتيجيا لتركيا.

وقد استفادت روسيا من الضعف العسكري النسبي للجمهوريات المستقلة، حين قيدت عملية صنع القرار في تلك الدول في كل ما يتعلق بروسيا، وتحطمت طموحات أذربيجان للهروب من قبضة روسيا بالتحالف مع الغرب قبل 2010، وبعد أن أصبحت أرمينيا معزولة دوليا في التسعينيات بسبب صراع ناغورني كاراباخ، اضطرت إلى قبول روسيا مهيمنة عليها، وأصبح لروسيا الحق في التدخل في شؤونها الأمنية.

أما  أذربيجان فلم تقع في دائرة الخضوع لروسيا، واحتفظت بسيادتها على المسائل الأمنية. والسبب الرئيسي هو التزام تركيا المستمر بتقديم الدعم الخارجي لها، الأمر الذي مكنها من تنفيذ سياسة خارجية متوازنة. وعلى الرغم من أن تركيا كانت شريكا استراتيجيا لباكو منذ التسعينيات، فإن التعاون بين البلدين قد شهد نموا ملحوظا منذ 2010، ما زاد من استياء روسيا.

ويلفت الباحث إلى أن التوقيع على "اتفاق الشراكة الاستراتيجية والدعم المتبادل" كان أول إضفاء للطابع الرسمي على التحالف التركي الأذربيجاني. وكان هذا مؤشرا واضحا على تأثير تركيا المتزايد في باكو، واستعداد كلا الطرفين لتحدي الهيمنة العسكرية الروسية في القوقاز صراحة. وعلى الرغم من أن صيغة المعاهدة غامضة إلى حد ما، فإنها كانت بالتأكيد إطارا لمزيد من التعاون بين صناعة الأسلحة التركية وأذربيجان من أجل كسر اعتماد باكو على مبيعات الأسلحة الروسية.

الهيدروكربون والنفوذ السياسي

ووفقا لفيليب روير، فإن طموح روسيا للهيمنة على المناطق الخارجية القريبة لا يعبر عنه بالهيمنة العسكرية فحسب، بل بمحاولة السيطرة على محيط الاتحاد السوفيتي السابق. وعلى ذلك تحاول موسكو السيطرة على الهيدروكربونات في حوض بحر قزوين من خلال كونها المزود الوحيد لشبكة خطوط الأنابيب عبر أراضيها؛ لأن ذلك وسيلة للسيطرة على صنع القرار في باكو من خلال النفوذ الاقتصادي القوي ولأن اقتصاد روسيا الخاص ضعيف التنويع ويعتمد على بيع النفط والغاز.

وفي المقابل ترى أنقرة أن موقعها الجغرافي الذي يتوسط  بين مصادر الطاقة والاقتصادات الأوروبية فرصة لتثبيت نفسها كمركز عبور رئيسي للهيدروكربونات. وقد حاولت روسيا بشدة منع المشاريع المبكرة مثل خط أنابيب BTC باكو تبليسي جيهان واحتلال المناطق الجورجية الانفصالية، وهو ما نظر إليه على أنه محاولة لتخريب أو الاستيلاء على طرق الطاقة في جميع أنحاء القوقاز.

ويؤكد روير أن التوجهات الاستراتيجية المختلفة لكلا البلدين بشأن ربط احتياطيات آسيا الوسطى بالأسواق الأوروبية بشكل مستقل عن شبكة خطوط الأنابيب الروسية ستظل معارضة، ولكن تركيا لديها مجال للمناورة من خلال القدرة على التراجع عن المشاريع الجديدة مع روسيا، وخاصة مشروع السيل التركي.

ويخلص إلى أن مصطلح "اللعبة الكبرى الجديدة" الذي يستخدم لوصف التنافس بين القوى الكبرى والإقليمية من أجل النفوذ والسلطة والهيمنة والربح في آسيا الوسطى والقوقاز، لا ينطبق على مجموع التفاعلات بين القوى الكبرى في القوقاز، ولكن ما يزال للمصطلح قوة تفسيرية للمنافسة الروسية التركية في المجال العسكري وعلى السيطرة على الهيدروكربونات. ولذلك، فإن احتمال الصراع على المصالح الأمنية والاقتصادية الرئيسية في العقد الماضي ما يزال أقوى من أسباب التعاون الاستراتيجي، واستمرار المنافسة التي ميزت التفاعلات الروسية التركية في القوقاز منذ نهاية الحرب الباردة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!