ترك برس

يُذكّر كتاب "العمارة والمدينة التركية" للبروفيسور في جامعة إسطنبول التقنية، مراد غول، القراءَ بأن التغيير هو أحد الحقائق التي لا مفرّ منها بالنسبة للمدن القديمة، بل في الواقع بالنسبة لأي مدينةٍ حية.

يتناول الكتاب القصة من العقود الأخيرة في العهد العثماني، ويبحث في كيفية تنفيذ مشاريع التحديث المختلفة بما يتماشى مع رمال السياسة المتغيرة، يقول غول في كتابة: "إن التاريخ الحضري والمعماري في إسطنبول قد اتّبع مسارًا موازيًا للتاريخ السياسي والاقتصادي المتشابك في المدينة"، ويضيف: "إن العمارة والتخطيط الحضري هما المجالان الرئيسيان الذان يمكننا من خلالهما تتبع وتحليل هذه الملحمة السياسية بشكلٍ واضح".

تظهر فترة حكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني هذا جيدًا، فقد كان عهده متناقضًا بعض الشيء حينما سارت الأضواء في النمط الأوروبي جنبًا إلى جنب مع الإسلاموية والأوتوقراطية في الخطابة. وقد أيد عبد الحميد ممارسي أساليب الفن الحديث وقام بدعمهم، وكان التحديث المكثف وتطوير البنية التحتية والأساليب المعمارية الوطنية أحد ميزات ذلك العهد. كما تم بناء مدارس وأرصفة ومرافىء ومكاتب جديدة، لا سيما في منطقتي غالاطا وبيرا، اللتين صممتا بشكلٍ متكرر من قبل المهندسين المعماريين الأوروبيين والشرقيين.

كانت السياساتُ أيضًا أساسيةً في التأثير على إسطنبول خلال السنوات الأولى من الحقبة الجمهورية، ومرةً أخرى كانت التأثيراتُ متناقضة: مع تحول العاصمة إلى أنقرة، كموقعٍ منطقي للنظام الجديد لخلق هوية تركية جديدة، مرت إسطنبول بفترةٍ من الإهمال. ورأى السياسيون الكماليون أن المدينة "مرتبطة اجتماعيًّا وجسديًّا بالنظام القديم وبأنها رمزٌ للهوية العثمانية المتدهورة والفاسدة".

ومع ذلك، بقيت العاصمة العثمانية القديمة محطّ اهتمام السلطات التي حرصت على إعادة تشكيلها بما يتماشى مع الروح الجمهورية. وفي عام 1936 تواصلت الحكومة مع مخطط المدن الفرنسي هنري بروست الذي شغل منصب كبير مخططي إسطنبول لمدة 14 عامًا. قدم بروست سلسلة من الخطط إلى بلدية إسطنبول تضمنت طرقًا كبيرةً وجديدة وحدائق ومتنزهات وساحات. والأهم من ذلك، أنها تضمنت إعادة تنظيمٍ لمنطقة تقسيم، وهدم الثكنات المدفعية العثمانية، وبناء كورنيش جديد، هدفًا منه لتحويل تقسيم إلى موقعٍ نموذجي "حيث يمكن للرجال والنساء الاختلاط والمشاركة بشكلٍ متساوٍ في الأنشطة الاجتماعية والترفيهية ذات الطبيعة العلمانية".

لكن معظم مقترحات بروست لم تمتلك مجالًا للتطبيق العملي على أرض الواقع، محبطةً من قبل القيود الاقتصادية. من الهامّ أن نرى الكيفية التي تم بها إحباطُ الخطط النظيفة والعقلانية في ذلك الوقت بسبب الواقع الفوضوي. من جهته يصف غول خطط بروست بأنها تستند إلى "الافتراضات الخاطئة والمثالية"، ولا سيما أنه فشل في حساب الزيادات السريعة في عدد السكان في إسطنبول، والذي كان من المتوقع له أن يرتفع بنسبة 47 بالمئة في غضون عقدٍ من الزمن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي عهد عدنان مندريس من الحزب الديمقراطي، الفائز في أول انتخاباتٍ حرة في تركيا سنة 1950، كانت الهجرة والتنمية العنوان الرئيسي لتلك الحقبة. وكثيرًا ما استخدم مسؤولو الحزب حينها موضوع إهمال حزب الشعب الجمهوري في خطاباتهم ووعدوا بإعادة إسطنبول إلى أيام مجدها.

قامت إدارة الحزب بجرف عشرات المباني التاريخية لفتح جادّاتٍ وميادين كبيرة. يقول المهندس المعماري الإيطالي لويجي بيتشيناتو إن التغييرات التي قام بها الحزب قد "أيقظت مدينةً نائمة"، على الرغم من أن هذه التغييرات كانت منتقدةً بشدة وزادت مزاعم الفساد خلال الخمسينيات من القرن الماضي. وكانت من بين الاتهامات التي وجهت لمندريس بعد أن أطيح به في انقلابٍ عسكري سنة 1960.

شهدت المدينة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حقبةً من الانجراف العمراني وعدم الاستقرار السياسي. ولكن وبعد الانقلاب العسكري سنة 1980، حدثت تغييراتٌ كبيرةٌ في إسطنبول تشبه إلى حدٍّ ما حقبة الحزب الديمقراطي، حيث قامت السلطات بهدم الهياكل التاريخية في سبيل تطوير البنية التحتية واستحداث مبانٍ جديدة. وانتشرت في ذلك الحين البيوت والأكواخ المبنية على ضواحي المدينة والتي تعرف بالتركية بـ غيجيكوندوس gecekondus، بالإضافة لانتشار عربات دولموش dolmuş وهي سيارات الأجرة المشتركة التي تعمل على الطرق والتي لا زالت تعمل في شوارع إسطنبول حتى يومنا هذا.

تم انتخاب بدر الدين دالان سنة 1984، ليصبح أحد أبرز الشخصيات في تاريخ إسطنبول حيث ساهم في ظهور إسطنبول الحديثة بطرقٍ إيجابية. كما قام العضو في الحزب الحاكم، تورغوت أوزال بإحداث ثورة في القرن الذهبي مما أدى إلى إزالة مياهه السامة واللاذعة التي دمرتها الفضلات الصناعية. ولكن ومرة أخرى، فشلت الموازنة بين حماية التراث والتحديث، حيث تم تدمير الكنوز التاريخية بهدف إفساح المجال للطرق.

كتب غول في ذلك: "فتحت مشاريع دالان الأبواب لمزيدٍ من التدخلات في شخصية إسطنبول التاريخية وجمالها الطبيعي. لكن في الوقت نفسه، كانت أنظمة الصرف الصحي وأنماط النقل الجديدة والمناطق الترفيهية التي أنشأها وسائل راحة أساسية للمدينة التي أرادت موافقة المعايير الحضرية المعاصرة".

في الفترة الأخيرة، وتحت حكم العدالة والتنمية، شهدت إسطنبول تطورًا هائلًا وسريعًا، جعلها مركزًا تجاريًّا واقتصاديًّا رئيسيًّا لتركيا والمنطقة والعالم. ولكن لا بدّ خلال هذا التطور الهائل الاستمرار في المحافظة على الآثار التاريخية العريقة التي تعطي فكرةً عن أهمية هذه المدينة على مرّ العصور.

وأخيرًا، على الرغم من كون كتاب (الهندسة المعمارية والمدينة التركية) غير شامل، إلا أن هناك الكثير مما يمكن تعلمه منه.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!