محمود عثمان - خاص ترك برس

ساعات قليلة تفصلنا عن استحقاق انتخابي تاريخي مفصلي في تاريخ تركيا الحديث, تتعدى نتائجه تشكيل الحكومة وتغيير شخص الرئيس. فإما أن يستمر حزب العدالة والتنمية في الحكم والسلطة, فيكمل مشواره, وتستمر عجلة النهوض والتطور , أو يدخل الحزب في نفق الضمور والانحدار والتصفية, فيلاقي مصير سابقيه, حزب الوطن الأم, والحزب الديمقراطي, فتدخل تركيا مرحلة الانكماش والانغلاق والانشغال بمشاكلها الداخلية.

الفارق هذه المرة أن حزب الوطن كان مشروعا نهضويا محليا. لكن حزب العدالة والتنمية تعدى المحلية, ليصبح مصدر إلهام لعموم بلدان وشعوب العالم الإسلامي, وشريكا استراتيجيا لكثير من الدول النامية الطامحة للصعود في أفريقيا وغيرها.

لذلك لا عجب من هذا الاستنفار العالمي من أجل مراقبة هذه الانتخابات, ولا غرابة من تدخل القوى الامبريالية بكل ما تملكه من أدوات ومنظومات مالية واقتصادية, وأذرع إعلامية, ومراكز للحرب النفسية.

اليوم يتوجه الناخب التركي إلى صندوق الاقتراع ليختار رئيساً للجمهورية في قسيمة, ويختار الحزب الذي يراه مناسبا لإدارة البلاد في القسيمة الثانية, ثم يضع القسيمتين في ظرف واحد, ويضع الظرف في الصندوق الانتخابي.

قد تكون المسافة بين هذه الخطوات قصيرة وقريبة جدا بالنسبة للغالبية , لكنها بالنسبة لكثيرين آخرين طويلة وحرجة, خصوصا اولئك الذين يكنون المحبة والثقة بالرئيس أردوغان, لكنهم غاضبون من بعض الشخصيات المقربة منه, أو الذين كانوا يأملون أداء أفضل من بلديات حزب العدالة والتنمية, أو الذين رأوا تصرفات وتعرضوا لمعاملات لا تليق باسم وسمعة حزب العدالة والتنمية, أو الذين لم يعودوا يرون الفرق بين إدارة حزب العدالة والتنمية وإدارة بقية الأحزاب من محسوبيات وغير ذلك, أو الذين يعتبون على نشوء بعض التحزبات والتكتلات (المرضية) داخل الحزب, أو ممن يرون الكبر والصلف عند بعض شخصيات الحزب, وأن السلطة قد أفسدت كثيرين منهم فتغيرت نفسيته وتصرفاته.  

قسم من هؤلاء غاضبون, وكلهم عاتبون. لكنهم يعلمون علم اليقين, أنه لا يوجد بين المرشحين من هو أفضل من رجب طيب أردوغان, لا دينا وإخلاصاً, ولا حرصا على المقدسات, ولا وطنية, ولا خبرة ودراية في إدارة البلاد وسياسة العباد.

كما لا يوجد بين المرشحين صاحب مشروع ورؤية تمكنه من المحافظة على إرث ومنجزات أردوغان وحزب العدالة والتنمية, بله النهوض بالبلاد وقيادتها نحو الأفضل.

شخصيات وأصوات عاقلة عديدة في الشارع الاسلامي, حذرت من مغبة وخطورة التوجه نحو تلقين درس لحزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات. في مقدمة هؤلاء المحذرين, أحد أبرز الوجوه الاسلامية البرفسور خير الدين كرمان, الذي كتب مقالا بعنوان:" الموت لا يجرب", لاقى صدى واسعا وتجاوبا كبيراً في المحيط الاسلامي.

عندما يستلم هؤلاء ختم وقسيمة وظرف الانتخاب ويتوجهون صوب كبينة التصويت, لن يبقى معهم سوى ضميرهم و أدوات الانتخاب. عندها لن يخطر ببالهم إلا سؤال واحد, طيب أردوغان أم سواه ؟..

هذه المرة سوف تتوجه قلوبهم نحو رجب طيب أردوغان.. أما التي بعدها فلا أحد يدري !.

لا أعلم إن كان هناك حزبا سياسيا, في بلد نظامه السياسي برلماني ديمقراطي, مكث في السلطة 16 عاماً مستمرة دون انقطاع, سوى حزب العدالة والتنمية.

هناك ثلاثة أحزاب سياسية وضعت بصمتها من خلال انجازاتها في تاريخ الجمهورية التركية. الحزب الأول هو الحزب الديمقراطي, الذي وضع حجز أساس الديمقراطية في تركيا, وقدم رئيسه شهيداً في سبيلها. والحزب الثاني هو حزب الوطن الأم, الذي وضع أساس النهضة الصناعية التركية, ومهد الطريق للتحول نحو الدولة المدنية. أما الحزب الثالث فهو حزب العدالة والتنمية, الذي رفع تركيا إلى مصاف الدول الصناعية المتطورة, وجعلها قوة إقليمية رئيسية في المنطقة.

في تجربة الحزب الديمقراطي, فاز الحزب في انتخابات 1950 فوزا كاسحا, ثم عزز نجاحه في الانتخابات التي تلتها عام 1954, لكن تأييده الشعبي هبط في انتخابات عام 1957, ثم جاء الانقلاب العسكري عام 1960.

في تجربة حزب الوطن الأم, فاز الحزب في انتخابات 1983 فوزا ساحقا, ثم فاز في الانتخابات التي تلتها عام 1987 مع هبوط في نسبة تأييده. لكنه خسر الانتخابات التي بعدها, ثم تلاشى الحزب نهائياً.

أما حزب العدالة والتنمية فقد فاز في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها, سواء كانت رئاسية, أم برلمانية, أم محلية / بلديات, أم استفتاء شعبي.

خلال 15 عاما, فاز حزب العدالة والتنمية في 12 استحقاق انتخابي, وحاز على المركز الأول في جميعها دون استثناء.

استطاع حزب العدالة والتنمية تقديم تجربة فريدة في التاريخ السياسي الحديث, ليس على مستوى تركيا فقط, إنما على الصعيد العالمي. لذلك سيكون من الطبيعي أن تنهال عليه السهام من كل حدب وصوب.

** خارطة توزع الناخبين

عموما يتوزع الناخبون في تركيا من حيث التوجهات الايدلوجية والنفسية على حوضين انتخابيين. الحوض الأول نسبته أو وزنه الانتخابي 65%, يزيد أو ينقص قليلا, ويضم الأحزاب والتيارات الاسلامية والقومية على اختلاف فروعها ومشاربها. أما الحوض الثاني فنسبته 35%, يزيد أو ينقص قليلا, ويحتوي على التيارات والأحزاب اليسارية, والعلمانية, والعلمانية الكمالية, والقومية اليسارية, واليسارية المتطرفة.

** الانتخابات الرئاسية

الثابت في هذه الانتخابات هو محافظة الرئيس رجب طيب أردوغان على كتلة صلبة من الناخبين لا تتخلى عنه مهما كانت الأحوال والظروف. لذلك من المرجح أن يفوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى, بنسبة 51-52%. لكن هذا مرتبط إلى حد كبير, بمدى وفاء قواعد حزب الحركة القومي بالتزامات حزبهم, وطاعتهم لزعيمهم.

على فرض عدم حسم انتخابات الرئاسة من الجولة الأولى, فإن الرئيس أردوغان سيفوز في الجولة الثانية بنسبة مريحة تتجاوز 60%, حيث سيصوت له كثيرون ممن لم يصوتوا له في الجولة الأولى. يأتي في مقدمة هؤلاء, غالبية الأكراد من غير المؤدلجين.

معلوم أن قواعد حزب الحركة القومي, لا تكن مشاعر إيجابية تجاه الرئيس أردوغان. زد على ذلك الانقسام الذي حصل في القاعدة الشعبية للحزب, وأدى إلى انحياز قطاع عريض منهم للمنشقين, الذين أسسوا حزب "إيي" بقيادة ميرال أكشنار. هؤلاء سوف يصوتون لمرشحة حزبهم في الجولة الأولى, ولمنافس أردوغان في الجولة الثانية.

في الحقيقة أردوغان لا يحتاج من حزب الحركة القومي أكثر من نسبة 2-3% . غالبية المتابعين لشؤون الانتخابات, يتوقون حصول هذا الدعم لأردوغان من حزب الحركة القومي بموجب الاتفاق بين الحزبين.

** الانتخابات البرلمانية

هناك عاملان متغيران رئيسيان هما من سيحدد تشكيلة البرلمان المقبل. العامل الأول هو نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في اجتياز العتبة الانتخابية, وحصوله على أكثر من 10% من مجموع الأصوات.

في هذه الحالة من المرجح أن تنقص مقاعد حزب العدالة والتنمية 50-60 مقعدا, وهذا ليس بالعدد القليل. لذلك بدأت بعض الشخصيات المؤثرة في حزب الشعب الجمهوري بالدعوة إلى عملية مقايضة في الأصوات مع حزب الشعوب الديمقراطي, بحيث يصوت قسم من منتسبي حزب الشعب الجمهوري لحزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية, لكي يتخطى الحزب العتبة الانتخابية, على أن يصوت بعض منتسبي حزب الشعوب الديمقراطي لمحرم اينجه في الانتخابات الرئاسية, وأطلقوا على تلك العملية, "من كل عائلة صوت".

في الحقيقة من سيحسم هذا الأمر, هو أصوات الأكراد المحافظين. هؤلاء في الحالة الطبيعية أقرب لحزب العدالة والتنمية. لكن في حالات الاستقطاب, وخصوصا عندما يضعهم حزب الشعوب الديمقراطي أمام خيار صعب, بأن يدخل الانتخابات بمفرده, فيصبح التحدي حول نسبة الأكراد في تركيا, فيضطر جميع الأكراد في تركيا للتصويت لصالح حزب الشعوب الديمقراطي, ليس تأييدا له, إنما لإثبات الذات.

كما أن تقارب  حزب العدالة والتنمية, وعقده حلفا مع حزب الحركة القومي, غريم الأكراد التاريخي, له أثر سلبي على هذه الشريحة. كذلك العمليات العسكرية في شمال العراق, لابد وأن يكون لها تأثير سلبي أيضا.

لا بد من الإشارة هنا إلى تحالف الإسلاميين الأكراد المنضوين تحت حزب الديمقراطيين الأحرار hudapar مع حزب العدالة والتنمية, الذي قام بترشيح بعضهم على قوائمه في مناطق جنوب شرق تركيا.

العامل المحدد الآخر هو كمية الأصوات التي ستذهب من حزب الحركة القومي إلى حزب "إيي". إذ أن هذه النسبة سوف تحدد حجم وثقل اتفاق الجمهور, الذي يجمع حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومي, في البرلمان.

أيا كان الأمر فمن غير المتوقع أن تقل أصوات حزب العدالة والتنمية عن نسبة 44%, حيث من المحتمل أن تتراوح نسبة مؤيديه بين 44-47%.

بعيدا عن السياسة وتعقيداتها وحساباتها, تلهج ألسنة الملايين في عموم أقطار العالم الاسلامي وتتضرع قلوبهم بالدعاء للرئيس رجب طيب أردوغان.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس