سعيد الحاج - عربي 21

حتى قبل أيام قليلة فقط، سادت تفاؤلات بانفراجة نسبية في العلاقات التركية - الأمريكية التي تعاني من أزمات متعددة ومتزامنة في السنوات الأخيرة، حيث عيّنت واشنطن أخيراً سفيراً جديداً لها في أنقرة بعد شهور من شغر المنصب وسلمت أنقرة أولى طائرات F35 رغم معارضة الكونغرس فضلاً عن اتفاق الطرفين بخصوص منبج.

إفراج السلطات التركية قبل يومين عن القس الأمريكي أندرو برونسون، المعتقل منذ 2016 بتهمة التعاون مع الكيان الموازي المتهم بالمسؤولية عن المحاولة الانقلابية الفاشلة، ونقله إلى إقامة منزلية إجبارية (حبس منزلي) صبَّ في نفس معنى الانفراجة وتوافقات الطرفين.

لكن مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، أطاح بكل ذلك فيما يبدو حتى الآن حين اعتبر ما حدث "غير كاف" وهدد أنقرة بعقوبات اقتصادية إن لم تفرج عنه سريعاً.

المعنى ذاته كرره ترمب في تغريدة له على موقع تويتر مهدداً تركيا بـ"عقوبات كبيرة" بسبب الاعتقال طويل الأمد لبرونسون مطالباً بـ"الإفراج الفوري" عنه، وهي تصريحات رفضتها تركيا على ألسنة عدد من المسؤولين في مقدمتهم الناطق باسم الرئاسة ورئيس البرلمان ووزير الخارجية وبمعنى واحد تقريباً هو "رفض الإملاءات" والتهديدات.

مبدئياً، ينبغي الإشارة إلى أن التقييمات التي ذهبت إلى استشراف القطيعة والمواجهة بين الطرفين فيها مبالغة كبيرة ولا تعكس واقع العلاقات في الفترة الأخيرة ولا الأسس التي تقوم عليها.

صحيح أن الأزمات بين الطرفين عديدة ومركبة ومتفاقمة، حيث تطالب أنقرة واشنطن بتسليم كولن ووقف دعم الفصائل الكردية المسلحة في سوريا في حين تطالبها الأخيرة بوقف مسار التقارب والتعاون - لا سيما عسكرياً - مع موسكو، إلى جانب ملفات خلافية أخرى، إلا أن ذلك لا يعني بحال أن الطرفين على شفا مواجهة أو على أبواب قطيعة.

فالمصالح المشتركة بين البلدين أكبر بكثير من أن يتمكن أي منهما من تجاوزها بسهولة. ذلك أنه إضافة للعلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، فالعلاقات السياسية والأمنية والعسكرية قائمة وراسخة ومتنامية منذ عشرات السنين، وبني عليها مصالح ومؤسسات وأدوار وتأثيرات ومسارات لا يمكن النكوص عنها بجرة قلم.

ما زالت تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقاعدته المتقدمة والبلد الفاصل/العازل لأوروبا عن الشرق الأوسط الملتهب بالأزمات، ولا يمكن تخيل استراتيجية أمريكية أو غربية أو أطلسية في سوريا أو المنطقة عموماً أو حتى بخصوص ملف اللجوء والهجرة دون تعاون وثيق من أنقرة.

في المقابل، ما زالت أنقرة غير قادرة على (ولا راغبة في) الانفكاك تماماً عن حلفائها الغربيين والاتجاه شرقاً بالمعنى الدقيق للكلمة، تأثراً باحتياجاتها العسكرية والأمنية والاقتصادية - وغيرها - معهم.         

ذلك أن التوجه التركي نحو روسيا والصين وإيران يعبر عن رغبة في التوازن والاستقلالية النسبية من خلال تنويع العلاقات وتعديدها بما يقلل من إمكانية الاحتكار والضغط عليها أكثر مما يعبر عن تحول كامل لبوصلة سياستها الخارجية.

وهذا ما يفسر رغبة أنقرة وقدرتها على بلورة تفاهمات وتوافقات مع أطراف متناقضة إلى حد كبير مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران والسعودية وغيرهم، ما يضفي على سياستها الخارجية شيئاً من المرونة والدينامية.

صحيح أن هذا اللعب على المساحات الرمادية والخلافات بين مختلف الفرقاء أمر بالغ الصعوبة وتكتنفه بعض المخاطر وقد لا يظل ممكناً و/أو آمناً على المدى البعيد، على الأقل في ظل احتمال توافق تلك الأطراف ثنائياً أو تواجهها أحياناً، إلا أنها تبدو حتى الآن سياسة تركية معتمدة بالتوازي مع تعظيم القدرات الذاتية والبحث عن شراكات.

بالعودة إلى قضية القس الأمريكي، يمكن القول إنها ذريعة أكثر منها سبباً للتصعيد الأمريكي الأخير، خصوصاً وأنه أتى بعد خطوة إيجابية نسبياً من أنقرة وفق تعبير وزير الخارجية الأمريكي، ما يعني أن الأسباب الحقيقية مختلفة عن تلك المعلنة

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس