خاص ترك برس

كانت الرقابة والإشراف العسكري والبيروقراطي الّتي حلّت مكان الرقابة والإشراف المدني والديمقراطي أحد أهم المشكلات التي واجهت تركيا في الماضي، فقد شكلت هذه التطبيقات اللاديمقراطية التي استمدت قوتها من دستوري 1961 و1982 موضوعات النقاش الرئيسية خلال تاريخ تركيا القريب، وعلى رأس هذه المواضيع طغيان الانعكاسات الدولتية عبر منصب رئاسة الجمهورية المزوّد بسلطات واسعة والذي لم ينتخبه الشعب، وكذلك مجلس الأمن القومي الذي يُعتقد أنه كان أكثر تأثيراً من مجلس الوزراء، وتدخلات القضاء المثيرة للجدل، وقرارات المحكمة الدستورية التي لا تجد دعماً ولا مقاومة اجتماعية.

حققت حكومة حزب العدالة والتنمية إنجازات فعّالة ضمن هذا الإطار تمثلت في مجالات متعددة جعلت من تركيا دولة أكثر حرية وديمقراطية.

كان رئيس الجمهورية فيما مضى يتمتع بسلطات واسعة على الرغم من أن منصب رئاسة الجمهورية في النظام البرلماني منصب تمثيلي ذو سلطات يمكن أن تعد رمزية، ومن ناحية أخرى لم يكن الشعب هو صاحب الكلمة المباشرة في انتخاب رئيس الجمهورية المزود بكل هذه السلطات الضخمة، وهو ما حال دون إمكانية محاسبة الشعب لرئيس الجمهورية، لذا تُعد المادة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب التي تمت الموافقة عليها في الاستفتاء الشعبي عام 2007م من أهم الإصلاحات المتعلقة بالتحول الديمقراطي ورفع معايير دولة القانون، ومن خلال كسر مفهوم الدولة المهيمنة التي لا تأخذ في الاعتبار عنصر الشعب الذي يعتبر المالك الحقيقي للسلطة تَحقّق إسهام مهم في عملية التحول الديمقراطي في تركيا.

كان تحويل مجلس الأمن القومي إلى مؤسسة مدنية موضوعاً شديد الأهمية، وهو المجلس المعروف لدى الرأي العام بأنه مؤسسة وصائية فوق الإدارة المدنية، لذا في إطار الحزمة القانونية السابعة للتوافق مع الاتحاد الأوروبي عام 2003م جرت تعديلات شملت أموراً تتعلق بالأمانة العامة لمجلس الأمن القومي بموجبها تم السماح بتولي شخصية مدنية لمنصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي بعد إلغاء شرط أن يكون عسكرياً، وبهذه الكيفية أصبح مجلس الأمن القومي جهازاً استشارياً لدى الحكومة في سياسات الأمن القومي كما هو الحال في النظم الديمقراطية المعاصرة.

يعد نظام القضاء العسكري في تركيا أحد النتاجات الدستورية في فترات ما بعد الانقلابات العسكرية، ولذلك فقد نص نظام القضاء العسكري على محاكمة مدنيين  أمامه. ومن ناحية أخرى تم منح المحاكم العسكرية مهام وسلطات محاكمة العسكريين عن جرائم لا تتعلق مباشرة بواجباتهم العسكرية. وفي هذا الصدد بُذلت خطوتان إيجابيتان؛ حيث تم أولاً تقليص ساحة تطبيق قانون العقوبات العسكري على المدنيين بموجب القانون رقم 4963، كما تم النص على محاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية بموجب التعديلات الدستورية التي جرت عام 2010م وأصبح العسكريون يحاكمون علناً أمام المحاكم المدنية عن جرائم تغيير النظام الدستوري أو القيام بانقلابات.

 إنّ تحقيق الأمن كما هو معلوم يقع تحت مسؤولية قوات الحماية التابعة لوزارة الداخلية، ومن ثم فإن قوات الأمن هذه تمارس مهامها في ظل النظام التراتبي المعروف تحت إشراف ومراقبة المحافظين في المحافظات، غير أنّه مع ازدياد نفوذ الوصاية العسكرية وبموجب بروتوكول "أماصيا" الموقّع بين وزارة الداخلية ورئاسة الأركان العامة عام 1997م والذي يحمل مخالفة للدستور ولقانون إدارة المحافظات رقم 5442 تم من خلاله السماح بتدخل الوحدات العسكرية في الأحداث الإجتماعية التي تقع داخل المدن دون دعوة من المحافظين ،وتعرضت التدخلات العسكرية التي طبقت بموجب هذا البروتوكول على مدار ثلاث عشرة عاما إلى انتقادات كثيرة أسفرت في النهاية عن إلغاء هذا البروتوكول عام 2010م.

كان من ثمار الانقلاب العسكري في 12 أيلول/ سبتمبر 1980م أن تمّ تخصيص ممثل للعسكريين داخل الكثير من الهيئات والمؤسسات العامة بغض النظر عن ضرورة وجوده من عدمه، وكان ذلك الوضع يزيد من صعوبة إدارة الخدمات العامة، لذا تم خلال السنوات الأخيرة إلغاء مقعد العضو العسكري في الكثير من الهيئات والمؤسسات العامة مثل المجلس الأعلى للجامعات، والهيئة العليا للإذاعة والتلفزيون، والمجلس الأعلى للأخبار.

إن تبعية مختلف الإجراءات والأعمال الإدارية في دولة القانون للرقابة القضائية تعدّ أحد أهم وسائل حماية الحقوق الأساسية والحريات، إلّا أن دستور 1982 جعل من مجلس الشورى مسؤولاً عن ترقية العسكريين وعن كل شؤونهم وأغلق الباب أمام الرقابة القضائية على قراراته، لذا جاءت التعديلات الدستورية عام 2010م لتفتح المجال أمام مقاضاة قرارات مجلس الشورى العسكري في مختلف قراراته بشأن الفصل والتسريح عدا ما يخص إجراءات الترقية أو الإحالة إلى التقاعد بسبب عدم توفر الدرجة الوظيفية، وبهذا تم رفع عائق مهم أمام دولة القانون.

بموجب التعديلات الدستورية عام 2010م تم إلغاء المادة الخامسة عشر المؤقتة من دستور 1982، وكانت تلك المادة تشكل عائقاً أمام مقاضاة أعضاء مجلس الأمن القومي الذي قام بانقلاب 12 أيلول/ سبتمبر 1980م، حيث أصبح بموجب التعديل الدستوري عام 2010م من الممكن مقاضاة قادة الانقلاب العسكري الذين لا يزالون على قيد الحياة، وتعد هذه الخطوة رسالةً مفادها أن الانقلابات العسكرية التي ألغت نظام الدولة الديمقراطي أو استهدفت إلغائه لن تبقى دون عقاب أو جزاء.

أدّت الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالممثلين الشرعيين للشعب عن السلطة إلى الكثير من الانتهاكات لحقوق الإنسان، وفي هذا الإطار تبرز أحد أهم المشكلات في تركيا وهي عدم مواجهة الانقلابات العسكرية التي وقعت في الماضي، وعدم التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عنها، لذلك تأسست داخل البرلمان التركي لجنة بحث تهدف إلى تحديد الإجراءات والتدابير اللازم اتّخاذها، وذلك من خلال بحث كافة الانقلابات والإنذارات العسكرية التي تدخلت في العملية الديمقراطية التركية، كما تأسست "لجنة درسيم الفرعية" داخل لجنة الطلبات في البرلمان حيث قامت بجهود مكثفة في أرشيف الدولة، وجمعت المعلومات والوثائق المتعلقة بأحداث "درسيم" التي وقعت في ثلاثينيات القرن الماضي، ويمكن النظر إلى هذه اللجان باعتبارها انعكاساً للرغبة في مواجهة أخطاء الدولة وعدم التغطية عليها وإخفائها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس