ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

رغم الانفراجة النوعية التي تشهدها العلاقات التركية – الأمريكية بعد عدة صفقات تبادل فيها الطرفان المصلحة بحذر، مع مسك كل منهما بأوراق اللعب بقوة متحفزا لمزيد من المعارك الجانبية التي يمكن أن تندلع في أي لحظة، لا سيما وأن كيمياء رئيسي البلدين لا تستجيب لمحاولات التوفيق، لأسباب عدة منها ما هو استراتيجي، بعد تغير نظرة كل طرف للأخر، ومنها ما هو نفسي لتضاد التركيبة الشخصية لكلا الرئيسين، فالرئيس أردوغان صاحب خبرة الثلاثين عاما في السياسة والذي يفهم البرجماتية السياسية الغربية جيدا، يريد بشكل أو بأخر أن يضفي لمسة مبادئية على قواعد اللعبة السياسية العالمية، وهو ما جعله محط إعجاب الشعوب الحالمة بفارس ينشلها من انبطاح حكامها، في المقابل فإن عقلية التاجر الذي قفز على السياسة بمساعدة أصحاب المصالح المالية من الأخوات السبع وغيرهن، تجعل من الرئيس ترامب انتهازي إلى حد تقمص دور مارلون براندو في فيلم الأب الروحي ، فلا أوضح من مطالباته المستمرة لولي العهد السعودي بثمن حمايته وحماية بلاده.

هذه الانفراجة لا تجعل من تركيا مسترخية في التعامل مع أمريكا، وتجعلها أكثر رغبة في إيجاد أنفاق هروب من محاولات أمريكا المستمرة في فرض سيطرتها على الإرادة التركية المتمردة على ذلك، ومن هنا كان الاتصال التليفوني الذي أجراه الرئيس التركي أردوغان بنظيره الصيني شي جين بينغ في أواخر الشهر الماضي تتويجا لاستراتيجية تركية في سبيل تنويع التحالفات وتخفيف ضغط الانسياق في مسار واحد قد يبدو الأفضل لكن كلفته كبيرة، وقد بدأت مؤشرات التقارب التركي في الفترة الأخيرة باتصالات ومشاورات بين الرئيسين مما جعل الرئيس الصيني يشيد بالرئيس أردوغان وحفاظه على توثيق الروابط بينهما في السنوات الأخيرة، بحسب جريدة جلوبال تايمز اليومية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني والتي تصدر بالإنجليزية، والتي وصفت علاقة الزعيمين بأنها قادت لتعاون استراتيجي يسعى لمستوى أعلى من المخطط له.

ولقد كان الدعم الصيني لتركيا أثناء أزمتها مع أمريكا بعد فرض الأخيرة عقوبات على تركيا والذي ظهر في بيان الحكومة الصينية الذي نشرته وكالة الانباء الصينية الرسمية والذي مر على الازمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا بشكل مهذب، حيث قالت (الصين تدعم الجهود التي تبذلها تركيا للحفاظ على نموها المطرد، وحث البيان البلدين على مشاركة فرص التطوير).

ومن جانبه أشاد الرئيس أردوغان بمبادرة الحزام والطريق وأعرب عن استعداده "لتعميق التعاون مع الصين في مجالات مثل التجارة والاقتصاد والاستثمار والطيران والسياحة داخل إطار الحزام والطريق، لكنه أيضا يخدم سعي تركيا لإطفاء الحرائق التي أشعلت عن عمد على حدودها لكي تطال طرف الثوب.

وبعيدا عن الموقف السياسي الخادم لهذا المشروع، فإن الأرقام توحي بأن شراكة استراتيجية يمكن أن تنشأ بين كل من بكين وأنقرة، تجلب النفع على دول جوار تركيا، إن هي رأت أبعد مما تنظر الآن، فإن كان الميزان التجاري يرجح كفة الصين في الوقت الحالي، إلا أن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين سيعادل بشكل كبير، وإن كان سيظل بحكم التاريخ والسكان لصالح الصين كماً، لكن المكاسب السياسية من هذه الشراكة يجعل من المعادلة التركية – الغربية على العموم والأمريكية على الخصوص تتغير بشكل كبير على المستوى الاستراتيجي، فالمحور العالمي ينسحب تدريجيا من الغرب لصالح الشرق، والمؤشرات التي تعطي دلالات ذلك كثيرة فالاتحاد الأوروبي الذي تحاول ألمانيا وفرنسا الإبقاء عليه دخل المستشفى في حالة متوسطة أقرب إلى الخطرة، والولايات المتحدة بسياساتها الحالية، وعلى الرغم من تشابك خيوط مصالحها في الشرق إلا أنها تتفكك، وتحاول الحفاظ عليها بدعم الدكتاتورية في الشرق الأوسط، رمانة الميزان في الشرق، وهو ما يزيد حنقة الشعوب عليها، وهو ما يجعل مصالحة ولو لم تكن مهددة فإنها غير مستقرة.

وقد يبدو للمتابع أن تركيا ماضية في خطتها البديلة بخطى واعية، فقمة التحالف الصناعي والتجاري في الحزام والطريق (بريكا) والتي عقدت في اسطنبول في 18 و 19 أكتوبر الماضي تشير إلى أن الفكرة واضحة في ذهن صانع القرار التركي ويصوب نحوها بثقة، حيث استضافت القمة رابطة الصناعة والأعمال التركية (توسياد) ، والتي تجمع في عضويتها حوالي 4500 شركة تدفع 80٪ من ضريبة الشركات في تركيا وتمثل 85٪ من التجارة الخارجية للبلاد، في مقابل الاتحاد الصيني للاقتصاد الصناعي ، إحدى مجموعات الأعمال الرائدة، الشريك الصيني في تلك القمة. والذي يسعى لترسيخ رؤية الصين لتركيا كشريك مهم ومفترق طرق أوروبي آسيوي يفتح أبوابه إلى أوروبا ويهدف إلى وجود أقوى في تركيا ليس فقط لسوقها المحلي ولكن أيضا للانفتاح على المنطقة والعالم، وهو ما يعني مزيد من انفكاك تركيا من ضغوط غربية كبيرة ويجعلها تلعب بورقة التجارة لتدخل الاتحاد الأوروبي كشريك مرغوب، بغير قيود تفرضها عليها توازنات تمليها الولايات المتحدة، وهو، إن حدث، فسيمثل نصرا للإدارة التركية على المستويين الداخلي والخارجي، ويكسبها جولة جديدة في مباراة المصارعة الحرة التي لا يجيد سيد البيت الأبيض غيرها.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس