د. علي حسين باكير - العرب القطرية

انطلقت الأسبوع الماضي في تركيا مناورات بحرية هي الأكبر من نوعها في تاريخ البلاد، وذلك تحت اسم «الوطن الأزرق». وفقاً للتصريحات الرسمية، فقد استغرق الإعداد لهذه المناورات حوالي ستة أشهر، وتم ترتيبها وفقاً لمعايير وأنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشهدت مشاركة أكثر من مئة قطعة بحرية، بالإضافة إلى آلاف الجنود وعدد من المروحيات العسكرية والطائرات بدون طيار محلية الصنع. توزعت المنورات على عمليات ذات طابع هجومي وأخرى ذات طابع دفاعي في البحار الثلاثة المحيطة بتركيا، وهي: البحر المتوسط، والبحر الأسود، وبحر إيجة، وذلك بشكل متزامن.

طُرحت عدة تفسيرات في ما يتعلق بالهدف الحقيقي من هذه المناورات والغاية الأساسية منها. هناك من فسّرها على أنها تأتي في سياق تقييم كفاءة وجهوزية القوات التركية ومدى قدرتها على الانتشار السريع والانخراط في معركة عسكرية محتملة في البحار الثلاثة في وقت واحد. يتقاطع مثل هذا الهدف مع الإشارة إلى قدرة أنقرة على خوض معارك عسكرية بالاعتماد على قدراتها الذاتية وصناعاتها الدفاعية المحلية دون الحاجة إلى الخارج، لا سيما مع تقليص الاعتماد على الخارج في هذا المجال -وفقاً للأرقام الرسمية- من حوالي 80% عام 2002 إلى حوالي 35% اليوم.

في المقابل، هناك من يفسّر هذه المناورات على أنها بمنزلة جهد لاستعادة القدرات الردعية التركية على المستوى البحري. فبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في العام 2016، شكّك كثيرون في قدرة الجيش على استعادة قوته، لا سيما بعد حملة التوقيفات التي طالت عدداً كبيراً من منتسبيه. وتُعدّ القوات البحرية بالإضافة إلى القوات الجوية من أكثر أفرع القوات المسلحة تضرراً؛ نتيجة لحملة التطهير التي طالت المتورطين في العملية الانقلابية الفاشلة. وبهذا المعنى، فإن المراد من هذه المناورات هو إرسال رسالة للمعنيّين بأن مثل هذا التقييم غير صحيح، وأن البحرية التركية تعمل بكفاءة عالية، لا سيما بعد التحديثات الأخيرة التي تم إدخالها على قطعها العسكرية، وهي قادرة على ردع أي اعتداء محتمل أو تعدٍّ على حقوق تركيا، لا سيما في بحر إيجة.

أما التفسير الثالث، فمفاده أن المعنيّ الأساسي في هذه العملية هو مجموعة الدول الإقليمية التي تحاول تعزيز مصالحها في شرق البحر المتوسط حيث تتزايد اكتشافات الغاز والنفط في ظل خلافات عميقة بين تركيا وقبرص التركية من جهة، وقبرص واليونان من جهة أخرى، ومن خلفهما إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي. الرسالة الأساسية التي يرسلها الجانب التركي من خلال هذه المناورات هي أن أنقرة لن تسمح بخلق أمر واقع في شرق المتوسط يتجاوز مصالحها القومية، وأنها ستكون مستعدة للانخراط عسكرياً إن تطلّب الأمر ذلك.

أياً ما يكن التفسير الدقيق، فإن جميعها تصبّ -على ما يبدو- في اتجاه التأكيد على تصاعد أهمية القوة الصلبة (العسكرية) في حسابات تركيا الخارجية. فمع تزاحم القوى الإقليمية على حماية مصالحها في محيط تركيا الجغرافي، تجد أنقرة نفسها مجبرة بشكل متزايد على التشديد على استعدادها لاستخدام قدراتها العسكرية للدفاع عن مصالحها الإقليمية، وما تصريح وزير الدفاع الأخير بشأن استكمال الاستعدادات العسكرية اللازمة لمعركة منبج وشرق الفرات إلا مؤشر إضافي على ترسّخ الاعتماد المتزايد على القوة العسكرية في السياسة الخارجية التركية.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس