محمد زاهد جول - القدس العربي

يمكن القول بأن السياسة التركية في سوريا مرت بعدة مراحل من ناحية التعامل مع النظام السوري برئاسة بشار الأسد، ولكنها كانت على وتيرة واحدة من وجهة النظر التركية التي تعاملت مع ثورات الربيع العربي بالمقاييس والمعايير نفسها، وهي أن الحكومة التركية مع المطالب الشعبية للشعوب العربية وغيرها، وفق الرؤى والتصورات التي مرت بها التجربة التركية المعاصرة في تلبية المطالب الشعبية في تركيا، والتعبير عن طموحات الحركة الشعبية التركية من خلال مسيرة الحياة السياسية التي انبثق منها حزب العدالة والتنمية وانتخابه لأول مرة عام 2002 وتأكيد انتخابه مرارا في الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية، فالحكومة التركية تتطلع في سياساتها مع كل الدول العربية أن تكون متقاربة مع التجربة التركية في السياسة والاقتصاد والانفتاح الاجتماعي بين كل فئات المجتمع.

المرحلة الأولى في العلاقة مع النظام السوري وبشار الأسد كانت في إحداث تقارب سياسي وتعاون اجتماعي وانفتاح اجتماعي حدودي بين الدولتين، وذلك أن كلتا الدولتين كانتا تشهدان قيادة سياسية جديدة وشابة، ولديها تطلعات في الانتماء إلى العصر الجديد في مناصرة قيم الحرية والديمقراطية والدولة المدنية التي تخدم الشعب وليس العكس، فكانت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين الأتراك والسوريين على أعلى المستويات، وعبّر الشعبان التركي والسوري عن ارتياحهما من لهذه العلاقات الجديدة والواعدة بكل خير للشعبين والدولتين، فتم توقيع مئات الاتفاقيات بين تركيا في السنوات القليلة التي سبقت ثورة الشعب السوري عام 2011.

وبحكم تجربة حزب العدالة والتنمية فإن قراءته للتاريخ السوري الحديث والأحداث التي وقعت في الثورة التونسية والمصرية جعلته يتوجه إلى الرئيس السوري بشار الأسد بالنصيحة إلى استباق الأحداث وإجراء إصلاحات سياسية ودستورية في بنية الدولة السورية، وبالأخص في التعددية السياسية والانتخابات الديمقراطية ومشاركة كافة التيارات الوطنية في إدارة شؤون الدولة السورية على أساس الدستور الجديد، وقد كانت وعود بشار الأسد للمسؤولين الأتراك إيجابية وتسعدهم، ولذلك واصلوا التواصل معه حتى انطلاقة الثورة السورية بتاريخ 15/3/2011 وبعدها وبالأخص في الأشهر الثلاثة الأولى، لأن الأسد كان يقابل النصائح التركية بالقبول والوعود الكاذبة، لأن وقائع تعامله مع ثورة الشعب السوري السلمية حتى ذلك التاريخ كانت قاسية في معايير ذلك الوقت، حيث كان يسقط كل يوم نحو مائة مواطن سوري يومياً على أيدي الأجهزة الأمنية وشبيحة حزب البعث.

وخلال هذه الأشهر القليلة بدأت قوافل الفارين من القتل تتوجه إلى تركيا، الدولة الأقرب إلى المدن السورية الشمالية، ومنذ بداية عملية النزوح إلى تركيا وحتى الآن يتعامل الشعب التركي مع اللاجئين السوريين على أنهم أخوة وضيوف ومهاجرون واجب على الشعب التركي نصرتهم وإحسان ضيافتهم، وكان الأمل أن تنتهي المشكلة السورية قريباً ويعودوا إلى ديارهم، لذلك كانت الحكومة التركية تأمل ان يكون هناك توقف قريب لأعداد القتلى، وكانت تظن ان الاعتراضات الكثيرة من داخل وخارج سوريا والتنديدات الدولية ستكون عوامل تساعد على تراجع بشار الأسد عن سياسة القمع والقتل، إلا أن الذي حصل عكس ذلك فقد زادت عمليات القتل وبعد ستة أشهر من انطلاق الثورة أخذ بشار الأسد بالنصائح الروسية والإيرانية باستخدام الجيش السوري لقمع الثورة بعد تأكدهم من عجز الأجهزة الأمنية والشبيحة عن إخماد الثورة، ولكن الجيش كان أكثر سفكاً للدماء والقتل والتدمير.

عند ذلك تأكد للحكومة التركية أن بشار الأسد يكذب عليها وأنه لن يصغي للنصائح التركية، بل أخذت الحكومة السورية تهاجم الحكومة التركية بسبب إيوائها لللاجئين السوريين في مخيمات اللجوء التي أخذت الحكومة التركية تعدها بسرعة لاستقبال العدد الكبير من اللاجئين السوريين، وكان اللاجئون السوريون ينحدرون من كل الطوائف والمذاهب السورية، فمنهم المسلمون والمسيحيون، والفقراء والأغنياء، المدنيون والعسكريون الذين انشقوا عن الجيش السوري بعد إقحامه في قمع الثورة، فعملت الحكومة التركية على تقديم المساعدات الإنسانية لكل اللاجئين إليها، وسمحت لهم ان يقدموا الدعم لإخوانهم وعائلاتهم وقراهم في داخل سوريا، سواء كانت مساعدات إنسانية أو مادية، فاعتبرت الحكومة السورية ذلك تدخلا في سوريا، بينما أعلنت الحكومة التركية أنها لن تمنع أي مساعدة تمكن الشعب السوري على الدفاع عن نفسه، وكان من أهم انواع الدعم السماح لقوى الثورة والمعارضة السورية بعقد اجتماعاتها التنظيمية والسياسية في تركيا، آملة ان يساعد ذلك الشعب السوري في وقف الاقتتال والعودة إلى الحوار والمفاوضات، وبالأخص بعد تشكيل المجلس الوطني السوري في نهاية عام 2011.

ومع توفر ظروف دعم للشعب السوري من عدد كبير من دول العالم وتعاطفها معه وهو يتعرض إلى المجازر والمذابح البشرية خلال عام 2012 كانت الحكومة التركية أكثر حماساً ورغبة من قبل في تمني زوال حكم الأسد، ولكن عن طريق الشعب السوري نفسه، وأوشك الشعب السوري خلال عام 2012 وبفضل المساعدات التركية والعربية والدولية ان ينهي حكم بشار الأسد، ولكن ذلك لم يتوافق مع المخططات الدولية وبالأخص الإسرائيلية والأمريكية، فإسرائيل عارضت سقوط الأسد لأنها تحتاج إلى حكومة سورية بديلة عن الأسد تحفظ أمنها في الجولان والحدود الشمالية حتى جنوب لبنان، والكونغرس الأمريكي وقف ولا يزال ضد سقوط الأسد حتى يضمن أن الحكومة السورية الجديدة لن تكون ضد المصالح الأمريكية، وبالأخص ان التيار الغالب على ثورات الربيع العربي كان إسلامي الخطاب والتوجه السياسي، وهو الأمر الذي استغله بشار الأسد ومحوره بادعاء انه يواجه ثورة اسلام سياسي وحركات تخريبية في البداية، ثم تاجر بمصطلح التنظيمات الارهابية لإقناع امريكا بصحة موقفه، وأخيراً يتاجر بأن الثورة السورية هي ثورة ارهابيين وتكفيريين لا يختلفون عن تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش فيما بعد، فتمكن بذلك ومن خلال المواقف الروسية المنتفعة من إدامة الحرب في سوريا من منع المجتمع الدولي وبالأخص مجلس الأمن من اتخاذ قرارات ضده، وهو الأمر الذي ساندته الحكومة الإيرانية، بل وطلبت الضوء الأخضر من امريكا وإسرائيل لإرسال مقاتلين من الشيعة اللبنانيين من حزب الله والعراق والحرس الثوري الإيراني نفسه، وهو ما توافق مع السياسة الإسرائيلية والأمريكية.

هذه الصورة والتطورات التي صاحبتها كانت الحكومة التركية تراقبها، وتراقب ممانعة الدول العربية وبالأخص الخليجية في التعاون معها في وضع حد لتدهور الأوضاع في سوريا، ودون ان تجد تعاوناً كافياً، وكذلك وجدت رفضاً من إيران للتعاون معها في وقف القتال في سوريا لاعتبارات طائفية وسياسية غير مقنعة، بل وسمعت منها تهديداً بعدم التدخل العسكري المباشر في سوريا ولا السماح لأي قوات دولية استخدام الأراضي والقواعد التركية، وإلا قامت الدولة الإيرانية بقصفها، وفي هذه الأثناء عملت الحكومة التركية على تقديم كل مساعدة إنسانية يحتاجها الشعب السوري داخل سوريا وخارجها بما فيها مخيمات اللجوء. ساهمت تركيا كثيرا في مؤتمري جنيف، واحد واثنين، في عامي 2012 و2013 وهي تعلم أن مجريات الأمور العسكرية قد ذهبت في اتجاه لا يمكن أن ينفع معه عمل سياسي ضعيف، وبالأخص ان روسيا وقفت ضد اتخاذ أي قرار دولي وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لاتخاذ اجراء عسكري دولي يوقف المجازر وحروب الإبادة البشرية في سوريا، وهو الأمر الذي جعل الحكومة التركية تجد نفسها محدودة الإمكانيات في مساعدة الشعب السوري باستثناء المساعدات الإنسانية واستخدام الأراضي التركية من قبل المعارضة السورية، بما تسمح به قوانين الحريات الشخصية والسياسية في الاتحاد الأوروبي، فكانت المعارضة السورية تعقد معظم اجتماعاتها السياسية في تركيا، فضلاً عن استضافة الحكومة التركية مؤتمرات أصدقاء سوريا، ولكن الحكومة التركية لم تكن تتدخل في قرارات تلك المؤتمرات، وبالأخص إذا ما كانت القوى السورية تتمحور على مواقف معينة بعد تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في نهاية عام 2012، ولكن الآمال التي عقدت على الائتلاف الوطني لم ترق إلى مستوى الحل النهائي، وبالأخص بعد فشل مؤتمر جنيف2 في نهاية عام 2013.

كانت الحكومة التركية تدرك ان محاولات بعض الدول العربية توجيه قيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وفق رؤيتها لن يؤدي إلى تحقيق النجاح، ولكنها لم تكن تقف في وجه ذلك، لأن موقف الحكومة التركية لا يتطلع إلى منافسة الدول العربية في دعم الثورة السورية ولا ممثليها السياسيين، لأن الهدف عندها هو تحقيق خلاص من المأساة التي وصل إليها الشعب السوري، لذلك تركزت السياسة التركية على المساعدات الإنسانية التي تكفل عيشا كريما لللاجئين السوريين داخل تركيا وخارجها، مع دعم كل جهد إقليمي أو دولي يعمل لإيجاد حل للأزمة السورية، دون أن توقف مساعيها الخاصة مع الدول ذات التأثير على الوضع في سوريا، ومنها العلاقات التركية الإيرانية، والعلاقات التركية الروسية، والعلاقات التركية العراقية، إضافة إلى علاقات تركيا مع الدول العربية ذات التأثير والرغبة في التأثير في قرار المعارضة السورية وأعمالها العسكرية، دون أن يتوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكافة المسؤولين الأتراك عن انتقاد السكوت الدولي على تواصل القتل في سوريا دون بذلك جهد دولي حقيقي لمنع ذلك.

ولما جاءت أحداث الموصل واحتلالها من جانب تنظيم داعش وقيام امريكا بتجميع ستين دولة في تحالف دولي عسكري ضد داعش، وجدت الحكومة التركية ان فرصتها السياسية قد حانت للضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات حقيقية لإنهاء الحرب في سوريا، ولذلك رفضت تركيا ان تكون مجرد أداة أو قوة عسكرية في هذه الحرب على داعش، وطالبت شروطها الثلاثة أمريكا وضع حد للمعاناة التي يعيشها الشعب السوري، والتي تعتبر احد اسباب وجود التنظيمات الارهابية في سوريا، فضلاً عن الأسباب الأخرى والأكبر والتي وجدت في العراق في ظل حكومة نوري المالكي سيئة الذكر.

من هنا فإن الشروط التركية الثلاثة للمشاركة في عمليات عسكرية في التحالف الدولي وإن كانت تحت مظلة التحالف الدولي ولكن الأهم من ذلك أن تكون عاملاً إيجابياً ونهائياً في حل الأزمة السورية، فكانت شروط المشاركة في العمليات العسكرية مع التحالف متعلقة بسوريا، فالشرط الأول هو فرض منطقة آمنة شمال سوريا، والشرط الثاني هو فرض منطقة حظر طيران في شمال سوريا، والثالث هو تدريب المعارضة السورية المعتدلة في سياق استراتيجية دولية لأنهاء الأزمة السورية، وبالرغم من المعارضة الأمريكية للشروط التركية الثلاثة فإنها وقعت قبل أسبوع مع الحكومة التركية اتفاقاً يتعلق بالشرط الثالث، وهو بتدريب المعارضة السورية المعتدلة في تركيا، تقدر بـ 1500 سوري معارض، على أن يتم تدريب آخرين في قطر والسعودية، وهذا يعني بأن الجهود الدولية لا تزال مترددة في إنهاء الحرب في سوريا، لأنها في بعض أبعادها تتداخل مع أزمات اخرى متعلق بعضها باستغلالها في إضعاف تركيا او إحراجها سياسياً، أو في استنزاف إيران عسكري واقتصاديا، وضغوط ملفها النووي وأطماعها في الجزيرة العربية، والأمر نفسه يتعلق بالموقف الروسي المساند الأكبر دولياً لبشار الأسد.

إن السياسة التركية في سوريا لم تسر وفق الأمنيات التركية، ولم تكن الحكومة على قادرة أن تتخذ موقفاً عسكريا أحادي الجانب، طالما أن الموقف الدولي لم يكن متعاوناً، والأكثر أسفاً ان المواقف العربية كانت تنظر للسياسة التركية بعين الريبة دون مبرر، فلا هي كانت تعمل في الاتجاه الصحيح ولا تركت غيرها يعمل بحرية، ولذلك فإن تركيا عملت ما كانت تستطيعه بقراراتها الذاتية، لمساعدة الشعب السوري اولاً، وبما لا يسيء لأي دولة عربية أو إقليمية، لعلمها ان الحروب الإقليمية بين شعوب المنطقة لن تكون لصالحها ولا لصالح القضية السورية، وحتى مبادرة دي ميستورا فإن تركيا لم تعارضها وإن كانت ترى بان مساعي وقف إطلاق النار الجزئي لن تكون كافية وفق خطة سياسية شاملة، وقد يكون من المبكر ربط عملية نقل رفات ضريح سليمان شاه الذي تم مؤخرا بأي عمل عسكري تركي في سوريا، بل قد يكون إشارة على نوايا عكس هذا الاتجاه.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس