د. زهير حنيضل - خاص ترك برس

في الأوقات الحاسمة، لا بد من القرارات الحاسمة العاجلة غير المستعجلة والمدروسة غير المتباطئة التي تضمن البقاء على أفضل نحو ممكن.

في ظل الظروف التي نعيشها والتوترات التي تحيط بنا من كل الجهاتن لا بد من اتخاذ القرار الجريء الشجاع، فالبقاء في منطقة "لا قرار" هو بحد ذاته قرار سلبي.

الظروف الداخلية:

في الذكرى الثالثة لمحاولة الانقلاب الفاشلة، تجد تركيا نفسها أمام تحديات كبيرة تعقد مهمة الوصول لحلم 2023 بالصورة المطلوبة. الاقتصاد التركي رغم تنوع مصادره وقوة صادراته إلا أن ميزان التجارة يميل لصالح الاستيراد، وزاد الطين بلة سياسات البنك المركزي الذي عمد إلى رفع سعر الفائدة في العام الماضي لمواجهة تراجع سعر الليرة التركية، تلك الخطوة التي كانت أشبه بمسكن ألم، لا يشفي ولا يعدو كونه حقنة مخدرة تؤجل الشعور بالألم الحقيقي الذي لا بد من مواجهته.

وجدت تركيا نفسها أمام ملفات شاكة عائقة، آخرها الانتخابات المحلية التي خسرها الحزب الحاكم في كبريات المدن التركية (إسطنبول، وأنقرة، وإزمير" لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض، تلك الانتخابات التي دقت ناقوس الخطر الحقيقي في آذان صناع القرار في الحزب الحاكم، الذي وجد نفسه - حتى ما قبل الانتخابات المحلية - أمام انقسامات داخلية تهيئ لنشوء أحزاب جديدة من رفاق الأمس ومنافسي الغد.

الظروف الإقليمية:

عند الحديث عن الظروف الإقليمية فإن المسألة السورية تتصدر واجهة الأحداث بلا منازع، كيف لا وتركيا هي أكبر المعنيين بالثورة السورية ونتائجها وانعكاساتها على المنطقة، تركيا التي تؤوي أكثر من 4.500,000 سوري في مدنها، وتمتلك شريطا حدوديا طويلا مع الجارة الجنوبية سوريا، ناهيكم عن أن نحو 720 كيلومترا من هذا الشريط الحدودي تحت سيطرة عصابات الإرهاب الآبوجي، وهي الفرع السوري لعصابات حزب العمال الكردستاني الإرهابي الذي تحاربه تركيا منذ أكثر من 40 سنة.

إس 400:

بمجرد بدء توافد قطع منظومة الدفاع الجوي "إس 400" إلى قاعدة "مرتد" الجوية في أنقرة بدأ الحديث عن نوع العقوبات الاقتصادية التي ستفرضها إدارة ترمب على تركيا، ردا على تمسكها بإتمام الصفقة التي حاولت واشنطن ثنيها عنها، تارة بحجة أن امتلاك تركيا لمنظومة دفاع جوي روسية لا يناسب حلف الناتو - مع العلم أن اليونان وهي العضو في حلف الناتو تملك منظومة دفاع جوي روسية
من طراز "إس 300" -  وتارة أخرى بحجة أن امتلاك تركيا للمنظومة الروسية سيعرض طائرات "إف 35" الأمريكية للخطر وأن وجود "إس 400" بالقرب من "إف 35" يسمح للمنظومة الروسية بالحصول على معلومات سرية عن الطائرة الأمريكية وأسرارها التقنية!

من هنا، كان التلويح الأمريكي بإخراج تركيا من مشروع الإنتاج المشترك لطائرات "إف 35" الأمريكية.

التنقيب في شرق المتوسط:

يلوح الاتحاد الأوروبي وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية بعقوبات قاسية ضد تركيا جراء إصرارها على التنقيب في شرق المتوسط، ويأتي التهديد المزدوج "الأوروبي - الأمريكي" لتركيا عبر الوكلاء تارة "إسرائيل واليونان" وبالأصالة تارة أخرى عبر كبار المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين.

القرار الصعب:

تركيا محاصرة من كل الجوانب، الداخلية والإقليمية المحيطة، ولا بد من اتخاذ القرار الحاسم الجريء، فقانون السيادة العالمية بعد الحربين العالميتين: إما السيادة وإما الاقتصاد، ولا مجال للجمع بينهما بالنسبة للدول النامية، وعليه نرى نماذج من دول تتمتع بالسيادة دون الاقتصاد مثل كوريا الشمالية ودولا تتمتع بالاقتصاد دون السيادة الفعلية الحقيقية المستقلة كعديد دول الخليج العربي.

تركيا أمام لحظة تاريخية، إما تجعلها في صدارة المشهد الإسلامي اعتمادا على جوارها العربي الشعبي، أو تعيدها إلى مظلة التبعية للغرب، تبعية مطلقة لا مكان فيها للسيادة ولا مكان فيها لحلم 2023.

إذا أرادت تركيا أن تخرج منتصرة بأقل الأضرار، لا بد لها أن تعيد النظر في شراكاتها مع العالم العربي والأطراف العربية التي تتشارك معها في المصالح، فالشراكة مع جماعة الإخوان المسلمين العرب هي شراكة خاسرة، فهم لا مشروع لديهم سوى السلطة، وتركيا لن تجني من شراكتها معهم إلا الخسران، وهي تدرك ذلك وتلمس بالأدلة عبثية هذه الشراكة، ولعل الثورة السورية وما آلت إليه من انكسارات وتنازلات هي أكبر دليل على سياسة الإخوان المسلمين العرب القائمة على مصلحة الجماعة وأفرادها قبل أي اعتبار آخر.

إن تغيير تركيا لشريكها العربي سيقودها للدخول لقلوب الشعب العربي، عبر علاقات وثيقة مع الجماهير العربية التي لم تعد تجهل ما يدور حولها، وتتعطش لقيادة مسلمة حقيقية تأخذ بيدها بعيدا عن القومية والعرق والتصاقا بالإسلام الحقيقي، لا الإسلام السياسي.

بداية الطريق التركي نحو النجاة من المؤامرات التي تحيط به، عبر البوابة السورية العراقية، فهي أقوى البوابات وأكثرها حيوية واستراتيجية لتركيا، من خلال شريك حقيقي جاهز للتعاون مع تركيا لوأد المشروع الانفصالي الآبوجي في شمال سورية وتقزيم دور إيران في العراق.

إن فعلت تركيا وأقامت شراكة حقيقية مع القوى العربية الوطنية في سورية والعراق، ستخرج من مآزق كثيرة، أولها الحصار الأمريكي عبر ثنائية "الاقتصاد والحرب" وليس آخرها عبر تأطير العمق الجغرافي لتركيا عبر جيران أقوياء متكافلين متضامنين مع تركيا بوحدة المصير.

منبج وشرق الفرات:

كما أسلفت هي اللحظة التاريخية الفارقة والتي لن يكون قبلها كما بعدها، فالمنتصر فيها سيكون المنتصر لعقود طويلة والخاسر سيبقى يتحسر على ما فاته من فرص. أرسلنا العديد من الرسائل المباشرة وغير المباشرة لأنقرة، موضحين فيها خطورة الموقف وحقيقته، بعيدا عن الدمى التي تدعي تمثيلها لمنبج وشرق الفرات وهي عبارة عن شخصيات كرتونية لا ثقل لها على الأرض ولا تستطيع تلك الشخصيات مجتمعة تأليف كلمة 100 رجل على قلب واحد.

الواقع العشائري في منبج وشرق الفرات لا يمت بصلة للتشكيلات العشائرية الهزلية التي نراها اليوم، بل لقد بتنا نسمع بأسماء لم نسمع بها من قبل، والبعض من تلك الأسماء لا تاريخ له ثوريا ولا عشائريا، مما ولد ردة فعل رافضة من الداخل السوري في منبج وشرق الفرات لهذه التشكيلات الصورية غير الفاعلة وغير القادرة على تحريك القاعدة الجماهيرية العشائرية في الداخل، ولو كانت تلك الشخصيات ضمن تشكيلات العشائر "منبج و شرق الفرات" في تركيا قادرة على تحريك الشارع العشائري لما رأينا عصابات الآبوجية تصول وتجول وتفتح الأبواب للسبهان وسواه في منبج وشرق الفرات.

أخر القول:

نجدد الدعوة لأنقرة لشراكة حقيقية فعالة مبينة على التكافل والتضامن ووحدة المصير واحترام السيادة الوطنية للجانبين وتفعيل كل قنوات الاتصال للخروج بورقة عمل تقود الجانبين التركي والشعبي الوطني السوري إلى عمل حقيقي يسحب من يد الغرب ورقة الدويلة الانفصالية الآبوجية في سورية ويضمن لتركيا عمقا جغرافيا استراتيجيا صديقا ومتحالفا معها.

عن الكاتب

د. زهير حنيضل

طبيب و أديب و معارض سوري مستقل


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس