د. عطية عدلان -  خاص ترك برس

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

ليست حالةً سياسيةً هي، وإنّما - بالوصف المطابق للواقع - هي حالة انتخابية محضة؛ بلغت من الغلو والشطط إلى حدّ الانفصال التام عن السياسة في الواقع والمآل وفي الوسائل والمقاصد، وإلى درجة تكاد تحول الانتخابات من كونها وسيلة إلى كونها مقصداً وغايةً، وهذا في التوصيف الصحيح: حُمّى انتخابية؛ تُسْتَثمر فيها الحالة الانتخابية لخلق ظروف تمهد لتغيير غير طبيعيّ وغير ديمقراطيّ، وإن ارتدى أَلْبِسَةَ الديمقراطية وأَرءدِيَتها، وأبرز الملامح التي تميز هذا المشهد (الانتخابيّ المحض) هو "تحالف الأضداد".

ولست أعني بتحالف الأضداد ما قد يقع بين قوى متضادة في أيدلوجياتها ولكنها تتحالف على بنود مشتركة تحقق لها جميعا مصالح مشتركة، أو تحقق للإنسانية نفعا عاماً بدفع الظلم عن المظلومين أو رفع المعاناة عن المقهورين؛ لأنّ مِثْلَ هذا التحالف يُمَثِّلُ قمة الأداء السياسيّ الراقي، ويحقق مصالح عليا ما كان لها أن تتحقق إلا به، ويوفر جوا من التقارب الحقيقيّ في المساحات المشتركة، وقد وقع مثل هذا في التاريخ السياسيّ للبشرية كثيراً، ومن أرقى وأسمى هذه التجارب ما أشاد به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: « لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ »() وفي رواية « شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي، وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ »()، وقد كان حلفا لرفع الظلم ودفع العدوان وتحقيق العدالة.

أمَّا تحالف الأضداد فهو ذلك الذي لا يُرى في أجندته من مصالح الطرفين إلا إسقاط المخالف لهما، وما وراء هذه الغاية الرخيصة يتمحض للغرم والمفسدة؛ لأنّ الخطوة التالية للإسقاط المتفق عليه هي التناقض التام الذي يبلغ حدّ الصدام، أو التخلي التام عن الثوابت من أجل تقاسم المغانم، وأوضح مثال على ذلك تحالف حزب الشعب الجمهوري مع حزب الشعوب الديمقراطي في دولة تركيا الشقيقة، إنَّه أغرب تحالف وقع في تاريخ السياسة التي عرفها السياسيون في العصر الحديث كله؛ لأنّ الأول منهما يقوم على جملة من الثوابت أبرزها عكس ما يغازل به الثاني جمهوره: "وحدة الأراضي التركية داخل الحدود الجغرافية الأتاتوركية"، وهذا التناقض الجذريّ من شأنه أن يعجل بانقضاء أجل التحالف وانتهاء نكاح المصالح، وابتداء سلسلة من التناحر لا يعرف لها آخر؛ مما سيكون له أثره الفاجع على الشعب التركيّ والسياسة التركية.

إنّ تحالفات الأضداد لعبة انتخابية تحول الديمقراطية إلى الغوغائية التي حذر منها المفكرون الكبار، ومنهم أرسطو في تقسيمه السداسي لنظم الحكم الدائرة على مدى التاريخ، وتصنع حالة من الاستقطاب غاية في السخونة غير المبررة، وتضفي على المتحالفين استعلاء سياسياً فارغاً لا رصيد له من الممارسة العملية؛ مما يكون له أثره البالغ على ممارسة الحزب الحاكم من جهة المزايدة الضاغطة، وهذا أداء في عرف السياسة في غاية الركاكة؛ لأنّ التنافس الحقيقيّ يغيب ويتلاشى في ظل المماحكات الانتخابية الهابطة، وكذلك تغيب المشاريع والرؤى وسط المزايدات التي لا قيمة لها، فليس عجيباً أن تبرهن أحزاب كثيرة عن إفلاسها باختزال مشروعها في طرد السوريين، مع أنّها تدرك في الواقع أنّها لن تستطيع فعل ذلك بسهولة؛ إذ إنَّ المسألة يحكمها توازنات بل وقرارات دولية وإقليمية ضخمة، لكنها المزايدة الرخيصة التي لا يراد منها إلا الإحراج للسياسيين الذين يحملون همّ البلاد والعباد.

أمّا تخالف الأنداد فهو القضيب الذي وُضِع موازياً لتحالف الأضداد؛ حتى يمضي عليهما قطار السياسة التركية إلى الهاوية إن لم يتدارك الله البلاد بلطف منه ورحمة، والأنداد هنا هم الرجال الأفذاذ العظماء الذين جعلوا أنفسهم أنداد ونظراء لرئيسهم، وهم يدركون أنهم مع عظمتهم أدنى منه بكثير، هؤلاء الذين قرروا أن ينفصلوا منه، ويشقوا طريقهم السياسيّ بعيداً عنه، هؤلاء مع تقديرنا لأشخاصهم وأشخاص الذين اتبعوهم أو ساندوهم، ومع تفهمنا لاعتراضاتهم على أداء العدالة والتنمية في الفترة الأخيرة، هؤلاء أخطأوا التقدير، لأنّ ما يجوز في وقت لا يجوز في كل وقت، فالسياسة مبناها على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى النظر إلى المآلات، وعلى اختيار التوقيت المناسب لاتخاذ مثل هذه القرارات، ألا يرون أنهم بتعجلهم الانفصال في هذه الأجواء الملبدة بغيوم الفتن والأهواء يصنعون حالة من الفشل وذهاب الريح سيكون لها - إن وقعت لا قدر الله - آثارها الوخيمة على الأمّة برمتها، من هذا الذي صور لهم أنهم بإمكانهم في هذه الفترة الوجيزة المتأججة بالفتن أن يقودوا سفينة البلاد إلى الشاطئ الذي يحلمون به ويداعب أخيلتهم بالنهار وأحلامهم بالليل؟!!

هذه هي الحالة الانتخابية التي لا علاقة لها بالأداء السياسيّ الواقع أو المنتظر، هي حالة تمهد لانقلاب أوضاع البلاد بصورة دراماتيكية وكوميدية في آن واحد، إنّها غُمّة ليس لها من دون الله كاشفة، والحل في يد الشعب، فهل سينجح الشعب التركيّ العظيم أن يجتازها بوعي ورشد وحكمة، هل سينجح هذا الشعب الذي كسر الانقلاب في 15 تموز أن يكسر هذا الحصار؟! وأن يعلي مصالح الوطن على المصالح الحزبية والعرقية الضيقة، وأن يتحلص من هيمنة الإعلام الرديء بكل ما له من صولات يصولها بالكذب والتدليس والنفاق؟ هذا ما سوف تكشفه الأيام، ونسأل الله لتركيا الخير والأمن والسلام. 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس