محمد ياسين نجار - الجزيرة نت

لطالما تحدثت تركيا عن أن أمنها القومي لن يتحقق إلا بتدخل قواتها العسكرية في شمال سوريا، وبناء منطقة آمنة حقيقية لا مجرد منطقة أمنية كما كانت ترغب فيها الولايات المتحدة.

لقد كشفت ميكانيزمات التعامل الأميركي مع الأتراك في ملف منبج أن الدوريات المشتركة خارج المدينة، وخروج قوات "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الظاهري من مركز المدينة، وإدارتها من قبل أهلها شكلياً؛ لم تكن إلا وهماً لم يستطع إقناع تركيا بمدى جديته.

فالواقع الحاصل على حدود أنقرة الجنوبية أصبح مهدداً حقيقيا للأمن القومي التركي، ولن ينطلي عليها وجود قوات عسكرية لحزب العمال الكردستاني (بي كى كى) تحت مسمى "قسد"، فهو مصنف كحزب إرهابي لدى الأتراك وقد بذلوا جهداً كبيراً لفرض ذلك التصنيف داخل دول "حلف الناتو".

إن مكالمة الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والتركي طيب رجب أردوغان الشهيرة في ديسمبر/كانون الأول 2018 -والتي قرر فيها ترامب الانسحاب من شمال شرق سوريا- لم تصمد إلا ساعات عديدة، ثم خضع لاحقا ترامب للمؤسسات الأميركية التي رفضت الانسحاب بشدة؛ مما أدى لإيجاد تأويلات وتبريرات عديدة عن إساءة فهم تصريح ترامب.

إلا أن إصرار أردوغان وقراءته الدقيقة لرغبة ترامب الحقيقية في الخروج من سوريا، لتركيزه على النمو الاقتصادي لبلاده وسعيه للاستفادة من انسحاب قواته في حملته الانتخابية القادمة. هذا بالإضافة إلى الدور المميز لوزير الدفاع التركي خلوصي آكار القادم من رئاسة الأركان التركية، التي لها علاقات وشيجة مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وزياراته المتكررة إلى واشنطن.

وكذلك الحملة الإعلامية التركية المستمرة داخلياً وخارجياً بشأن ضرورة المنطقة الآمنة؛ بحيث لم يكن القادة الأتراك يتركون فرصة إلا وذكّروا فيها بهذه المسألة، مؤكدين أن الأمن القومي التركي لا يمكن أن يتحقق إلا بها؛ مما جعل الرأي العام التركي جاهزا لذلك. وقد اتضح ذلك بتصويت حزب الشعب الجمهوري المعارض لصالح قرار التدخل، بينما عارضه حزب الشعوب الديمقراطي المقرب من حزب العمال الكردستاني.

إنَّ المكالمة الأخيرة للرئيسين التركي والأميركي -والتي حضر خلالها وزيرا الخارجية والدفاع الأميركي ورئيس الأركان، منعاً لتكرار ما حصل في المكالمة الأولى من تراجع عن تنفيذ القرار- أدت إلى قرار مباشر من الرئيس أردوغان بإطلاق عملية عسكرية مباغتة تحت مسمى "نبع السلام"، بحيث تمنع رافضيها -لأسباب دولية وإقليمية- من ممارسة الضغوط على أنقرة لإلغائها.

ولذا كان الجيش التركي على أتم الجاهزية بعد المكالمة لبدء المعركة حتى تتحول إلى أمر واقع يصعب تجاوزه لاحقاً، بالإضافة لعمليات التنسيق مع "الجيش السوري الحر" من خلال توحيد الفصائل تحت راية وزارة الدفاع -في الحكومة السورية المؤقتة- بقيادة اللواء سليم إدريس، للمشاركة معاً في تلك العملية.

إن الدبلوماسية التركية استطاعت -بعد قضية إسقاط الدفاع الجوي التركي الطائرة الروسية (في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015)- أن تتوازن في علاقاتها مع روسيا وأميركا، بحيث تجعل الطرفين غير راغبيْن في خسارتها، وهو ما مكنها من تسويق نفسها كدولة مقبولة لدى الطرفين.

كما استطاعت الاستفادة من الضغوط الأميركية على إيران لإشعار الإيرانيين بأنها شريان حياة ضروري لهم إذا تطورت عمليات الحصار، وهذا ما يلاحظ في كتابات بعض الصحفيين الإيرانيين أو المحسوبين على طهران في لبنان، الذين أظهروا فيها استياءهم من التدخل التركي رغم أنهم جزء من "محور أستانا".

إن التجارب العسكرية للجيش التركي تؤكد أنه جيش ذو عقيدة قتالية ويجيد التخطيط والتنفيذ، وهذا ما حصل سابقا عند تدخله في قبرص عام 1974 في عهد حكومة بولنت أجاويد ونجم الدين أربكان، وأخيرا في عملياته الأخيرة في إطار "درع الفرات"، وخاصة "غصن الزيتون" التي نفذ خلالها عملية عسكرية استئصالية لحزب العمال الكردستاني في منطقة ذات تضاريس صعبة.

وقد بنى الحزب -خلال عقود مضت- تحصينات وأنفاقا في هذه المناطق وشق مسالك عسكرية خاصة به، لا يعرفها إلا سكان المنطقة لمناوشة الأتراك وإزعاجهم بين فترة وأخرى. ولم يتوقف ذلك إلا بعد تهديدات جدية بالتدخل التركي عام 1997 في عهد الرئيس التركي سليمان ديميريل، وبعد تدخل الرئيس المصري حينها حسني مبارك تمت صفقة تخلي دمشق عن دعم وإيواء زعيم حزب العمال عبد الله أوجلان وحزبه.

وتم لاحقا توقيع اتفاق أضنة عام 1998 الذي سمح نظام الأسد بموجبه بتدخل القوات التركية مسافة 5 كم لمحاربة الإرهاب، والمقصود هنا مليشيات حزب العمال الكردستاني التي حاولت روسيا استغلالها لتغير تعامل تركيا مع الملف السوري باعتبارها مجرد أزمة بين دولتين.

إلا أن الكثير من الكتاب والمفكرين يتكلمون عن هواجس محتملة يمكن أن تقع، منها أن تكون عملية "نبع السلام" مستنقعا سعت أميركا لتوريط الأتراك فيه على غرار توريط الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في غزو الكويت، علماً بأن هناك تباينا زمانيا وفوارق في التموضع للبلدين، إضافة إلى حالة توازن القوى وطبيعة الواقع الدولي المتأزم، وواقع تركيا ما بعد مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

ويقول البعض أيضاً إن تركيا ترغب في القيام بعملية تغيير ديموغرافي للمنطقة من خلال إعادة مليون لاجئ لتلك المنطقة؛ متناسين أن هناك أكثر من مليون سوري لاجئ -من إجمالي قرابة أربعة ملايين موجودين في تركيا- تعود أصولهم إلى تلك المنطقة، وقد قامت قوات "قسد" –وهي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني- بتهجيرهم من مناطقهم في الرقة والحسكة.

وذلك بعد أن سعت لتطبيق عمليات التجنيد الإجباري وممارسة العنصرية، وارتكبت بحقهم انتهاكات حقوقية وثقتها منظمة العفو الدولية والكثير من المنظمات الحقوقية؛ من أجل الوصول إلى مشروع انفصالي بعيداً عن رغبة سكان المنطقة. فغالبية اللاجئين السوريين الموجودين في أورفا وماردين -والشريط الحدودي المحاذي لتلك المنطقة- انتقلوا إلى الضفة الأخرى خلال مرحلة سيطرة "قسد".

إن محاولات البعض تسويق ذلك المنطق يعاكس المفهوم الوطني الذي طالما رفعت شعاراتِه الثورةُ السورية؛ فمنطقة شرق الفرات أرض سورية يسكنها العرب والأكراد والتركمان والسريان والآشور والشركس منذ مئات السنين، وليست لعرق على حساب الآخر.

فهل يُعقل –في المقابل- أن يطالب أهالي دمشق وحلب بعودة أكراد الجزيرة وعفرين وعين العرب إلى مناطقهم؟! إن هذا المنطق مرفوض وطنياً وأخلاقياً لأن سوريا لكافة السوريين، علماً بأن سكان المدن الكبرى لا تناسبهم طبيعة الحياة الزراعية، فهم يتقنون التجارة والصناعة وليس الزراعة.

إن السؤال المشروع والمطلوب إيجاد إجابة واضحة عليه هو: هل يمكن أن يكون تحرير منطقة "نبع السلام" من حزب العمال الكردستاني عنصراً ضاغطاً على المجتمع الدولي حتى يتم إقرار حل سياسي عادل للشعب السوري؟ أم إن هذه العملية هي عملية توسعية تركية تستهدف الأقليات كما تدعي دول عديدة؟

فجامعة الدول العربية -التي تغاضت عن القصف الروسي لحلب وإدلب والغوطة وتدخل المليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية- استفاقت بشكل مفاجئ الآن، وأصبحت تدافع عن الأقليات وسيادة سوريا المنتهكة –منذ سنوات- حتى العظم. إنَّ كافة المؤشرات تشير إلى براغماتية "قسد" اللامتناهية، والتي قد تصل إلى إعادة العلاقات مع نظام الأسد مقابل تقديم تنازلات لها، حتى تكون جزءاً من تسوية ممكنة بالشراكة مع إيران وروسيا.

إلا أن قيادات في المعارضة السورية أصبحت لديها هواجس متزايدة وجدية، وذلك بعد إقرار اللجنة الدستورية بعيداً عن بيان "جنيف 1" والقرارات الأممية 2118 و2254. والانفلات الأمني وعدم تنظيم إدارة فاعلة للمناطق المحررة شبيهة بما قامت به أنقرة في قبرص التركية، من حيث تقديم الدعم المنجز والكافي لحياة مستقرة.

إن إعادة تكليف شخصية ملائمة لقيادة حكومة سورية مؤقتة جديدة -مع الاستفادة من كافة الخبرات التي عملت خلال المرحلة الماضية- أصبحت ضرورة ملحّة في حال تحرير كامل المنطقة المذكورة.

إن إزالة تلك الهواجس تتطلب حواراً صريحاً بين تركيا والمعارضة السورية بعد أن تعيد الأخيرة بناء مؤسساتها؛ بحيث تتجاوز المحاصصة والولاءات غير الوطنية، حيث إن الجميع أصبح يرى حالة الترهل التي أصابتها، وضعف آليات صناعة القرار السوري المنتمي إلى الثورة.

إن عملية "نبع السلام" يمكن أن تكون منطقة وسطى تتقاطع فيها المصالح المشتركة التركية/السورية/الخليجية؛ فبثّ روح جديدة في جسد الثورة السورية أصبح ضرورة ملحّة، لبناء شراكة على أسس من الصراحة والعلاقات الأخوية، والدعم الملائم لاستقطاب قرابة مليون سوري، حتى تعيش المنطقة حالة من الاستقرار تمنع جماعات الإرهاب الديني والقومي من التسرب مجدداً إلى سوريا.

إن حالة الاستقرار هذه ستكون مدماكاً أساسياً لبناء الحل السياسي، وسيجعل ذلك من الصعوبة بمكان عودة سوريا المفيدة زراعياً ونفطياً إلى أيدي النظام، بل إن إدارتها من قبل المعارضة بشكل فعّال ستعطيها عناصر قوة إضافية، وهذا ما يجب البناء عليه مع تركيا والدول الصديقة في الخليج وأوروبا، مما يجعل سوريا المستقبل جسراً حضارياً يربط بين أوروبا وتركيا والخليج.

إن هذا المفهوم هو المطلوب تسويقه من قيادات المعارضة، بحيث تكون سوريا دولة تساهم في استقرار المنطقة وازدهارها، غير مستقطبة لصالح هذه الدولة أو تلك. فإن أدركت تركيا والمعارضة ذلك كانت العملية نقطة تحول حقيقي في صالح السلام والاستقرار، وهو المأمول لشعوب المنطقة التي عانت بشدة من ويلات وبطش المستبدين الآفلين بإذن الله.

عن الكاتب

محمد ياسين نجار

وزير سابق في الحكومة المؤقتة التابعة لائتلاف المعارضة السورية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس