محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

"مع وصولكم كم أصبح الجو جميلًا"، تلك الجملة التي استهلّ بها الرئيس بوتين استقباله للرئيس التركي أردوغان في مدينة سوتشي تظهر أن كل الآمال كانت معلقة بتخطي الحاجز الأول للبدء بتنفيذ مسار أستانة واتفاقية وجنيف بعد عملية نبع السلام، والتي أفشلت المخططات لتجزئة التراب السوري.

لم تكن نتيجة محادثات أستانة مسألة سورية داخلية بقدر ما هي مسألة تخص الدول الإقليمية وجهات دولية أخرى، إضافة إلى الشأن الداخلي السوري، فكل تلك الجهات تقضم كعكة أستانة مع مشروبها الوطني، أو ترى أستانة مضمارًا لسباقات خيولها، وعلى سبيل المثال فإن إيران رأت في أستانة فرصة للاصطفاف ضد قوى الاستكبار العالمي الأمريكي، والروس استغلوها فرصة ذهبية لشرعنة وجودهم في الشرق الأوسط وأول موضع قدم  للانتقال من الدور الهامشي إلى دور رئيسي على مسرح الأحداث في المنطقة، وكذا الحال للولايات المتحدة الذي يعتبر أن مسار أستانة هو مكمل لمقررات جنيف.

كانت معظم الأطراف الإقليمية والقوى الدولية لا تولي أية أهمية للدور التركي في المسألة السورية سوى أنها الدولة الأكبر احتضانًا للاجئين السوريين، دون الأخذ بنظر الاعتبار فصائل المقاومة السورية المدعومة منها.

استطاعت روسيا وبجدارة بعد مواقفها المتشددة المساندة  للنظام السوري، إطالة عمر النظام، والظهور في الساحة السورية كلاعب رئيسي بدون منافس حقيقي، والدخول والتأثير في ساحات أخرى، كانت تلك خطوطًا حمراء يصعب تجاوزها إن لم تكن مستحيلة، وكما حدث مع السعودية فقد حققت الزيارة التاريخية لها كل تطلعات الروس وأمنياتهم من وجهة نظرهم لأنها الأولى كما أنها كانت مثمرة للغاية.

عملية نبع السلام التركية التي انتهت اليوم حسب تصريحات المسؤولين الأتراك أحدثت ثورة فعلية في البيت السوري، فقد دفعت الجيش الوطني السوري المعارض إلى السيطرة على مواقع جديدة تمهيدًا لإدارتها مستقبلًا.

والأمر الثاني المكمل لترتيب البيت السوري هو الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وقطع الطريق أمام بعض الجهات التي كانت تحاول تفكيك التراب السوري، وقد أكد كلا الجانبين التزامهما بالحفاظ على الوحدة الإقليمية والسياسية لسوريا وعلى حماية الأمن الوطني لتركيا، وهي من ضمن مقررات اتفاق سوتشي بين الرئيسين الروسي والتركي. وإلى عهد قريب قبل اجتماع أستانة  كان الروس يحاولون منع الولايات المتحدة من الانخراط أكثر في المسألة السورية من خلال مساعدتهم لتنظيم "ي ب ك" الذي كانت له خطوط تواصل مع جهات أخرى غير الولايات المتحدة، وربما كانت اتصالات التنظيم مع النظام السوري تمثل كرتًا أخضر لمزاولة كافة نشاطاتهم وسيطرتهم على الشمال السوري وشرق الفرات.

وقد رأت الولايات المتحدة التي لايغيب عنها تواصل النظام مع "ي ب ك" أن موضع القدم الذي يستطيع الحصول عليه سيكون من خلال التنظيم.

أعطى اجتماع أستانة الشرعية الدولية لعملية نبع السلام، وخصوصًا بعد تفهم الولايات المتحدة للتخوفات التركية، حيث سيتم في هذا الإطار الحفاظ على الوضع الراهن في منطقة عملية نبع السلام الحالية التي تغطي تل أبيض ورأس العين بعمق 32 كيلومتر.

بعد مقررات جنيف واتفاقية أضنة ومسار أستانة واتفاقية سوتشي لا زال الرئيس الروسي يحاول الإبقاء على بشار الأسد كرئيس لسورية، والعقبة الوحيدة التي لا زالت أمام تلك المهمة هي تركيا، فبعد عملية نبع السلام واجتماع مجلس الجامعة العربية ارتفعت أصوات لإرجاع سوريا من جديد لمجلس الجامعة العربية، وما صرح به أحد أقطاب المعارضة السورية حول دعوة الرئيس بوتين للاجتماع بالأسد يثبت ذلك في قمة سوتشي الأخيرة.

أدت اتفاقية أضنة لعام 1998 الموقعة بين تركيا وسوريا بعد التأزم الشديد في علاقات البلدين إلى انفراج حقيقي في الأزمة، بل وتطور ذلك الانفراج إلى إقامة علاقات جيدة بينهما تباعًا بعد ذلك. ومن المؤكد أن روح اتفاقية أضنة كانت حاضرة على مائدة المحادثات التي دفعت الرئيس الروسي لطلب عقد لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس النظام السوري، لأن تلك الاتفاقية قد محت كل ماضي القطيعة والعداوة بين البلدين ومن جملة قراراتها على سبيل توضيح أهميتها:

- تعاون سوريا التام مع تركيا في "مكافحة الإرهاب" عبر الحدود، وإنهاء دمشق جميع أشكال دعمها لتنظيم "بي كي كي"، وإخراج زعيمه أوجلان من ترابها، وإغلاق معسكراته في سوريا ولبنان (كان آنذاك خاضعا للوصاية السورية المباشرة)، ومنع تسلل مقاتليه إلى تركيا.

- احتفاظ تركيا بـ"حقها في ممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس" وفي المطالبة بـ"تعويض عادل" عن خسائرها في الأرواح والممتلكات، إذا لم توقف سوريا دعمها لتنظيم "بي كي كي".

- إعطاء تركيا حق "ملاحقة الإرهابيين" في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، و"اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر...".

قرارأمريكا بعد سحب معظم قواتها من سوريا والإبقاء فقط على مائتي مقاتل فقط يؤشر على أن المسألة السورية أخذت مسار وطريق الحل الشامل والدائم وخصوصًا بعد اقتراب اللجنة الدستورية من اجتماعاتها في جنيف خلال الشهر القادم.

أما إيران التي رحبت بحذر باتفاق سوتشي، كما أن عملية نبع السلام كانت مفاجأة حقيقية لها، بالإضافة إلى أنها لا زالت تراقب نتائج تلك العملية ورد الفعل الأمريكي على العملية التركية وكذلك على مستقبل تحالفها مع تنظيم "ي ب ك".

كانت إيران قلقة من صدور بعض الأصوات التي نادت بإعادة سوريا للجامعة العربية، تلك الأصوات التي كانت عاطفية أكثر مما كانت عملية مدروسة، ورغم أنها حشدت ضد تركيا أساسًا لكنها خفتت بصورة فورية عند الاصطدام بالمستوى العالي للعلاقات الإيرانية مع نظام بشار الأسد، لأن أية خطوة حقيقية لعودة سوريا للجامعة العربية ستكون مرتبطة بفك ارتباطها الوثيق بإيران، كما أن أية خطوة تخطوها روسيا لصالح نظام الأسد ستصطدم بتلك العقبة نفسها من الدول العربية والإقليمية والقوى الدولية الأخرى، وهذه العلاقات المتميزة بين إيران والنظام السوري ستكون معضلة كبيرة لكل مسعى يراد به وضع السكة في المسار المتجه لخروج سوريا من الدائرة الضيقة.

في ختام اجتماع الدول العربية التي أخرجت سوريا من الجامعة العربية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 في القاهرة، والتي علقت مشاركة وفود سورية في اجتماعات مجلس الجامعة العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، إلى حين قيامها بالتنفيذ الكامل لتعهداتها وتوفير الحماية للمدنيين السوريين من خلال الاتصال بين المنظمات العربية والدولية المعنية.

وفي حينها قرر وزراء الجامعة العربية توقيع عقوبات اقتصادية وسياسية ضد النظام السوري، ودعت الدول العربية لسحب سفرائها وإبقاء المجلس في حالة انعقاد على أن تتم دعوة جميع أطراف المعارضة السورية للاجتماع في الجامعة العربية خلال ثلاثة أيام، وأن ينظر المجلس في نتائج الاجتماع ويقرر ما يراه مناسبا بشأن الاعتراف بالمعارضة السورية. فتحت تلك المقررات الباب واسعًا أمام تغلغل إيران، وغلقت كل الأبواب التي كانت تؤدي إلى الحل في ظل العمل الجماعي لمؤسسة الجامعة العربية أو على الأقل كانت تضمن وحدة الأراضي السورية في وقت لاحق، ومن المعلوم أن سوريا علقت في حينها على القرار بأنها كانت نتيجة ضغوط مارستها الولايات المتحدة الأمريكية على دول الجامعة العربية.

نبع السلام وسوتشي ستتركان آثارًا متباينة لكل الدول الإقليمية ومجموعة القوى الدولية التي تولي أهمية للشأن السوري، فإذا كانت أمريكا قد ضمنت تدفق النفط، وشرعت روسيا بقاءها في سوريا، وانتهى الدور الأوربي في الشرق الأوسط، وتحولت الساحة السورية لمستنقع حقيقي لإيران، فإن تركيا لا تنتظر أية مكاسب من تلك العملية لأن الأتراك ما زالوا يمتطون صهوة جيادهم مترقبين المحادثات بين الرئيسين أردوغان وترامب وكذلك اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف.

وفي الختام فإن تسمية اتفاق سوتشي بالاتفاق التاريخي من قبل الرئيس التركي لها دلالاتها ونتائجها المرتقبة، ومن أهمها أنها أكملت مشوار الأتراك بالمحافظة على وحدة الأراضي السورية ومنعت تنفيذ خرائط مشبوهة في الشرق الأوسط عرابها صقور البيت الأبيض.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس