سعيد الحاج - عربي21

خلال الأسبوع الفائت، وجه الرئيس التركي لرئيس وزرائه الأسبق أحمد داود أوغلو؛ اتهامات بالاحتيال على أحد المصارف في ما يتعلق بإحدى الجامعات الخاصة المحسوبة عليه، بينما لم يقف رد الأخير عليه عند النفي والتفنيد، وإنما تخطاه إلى دعوة البرلمان للتحقيق في أملاك الأحياء من الرؤساء ورؤساء الوزراء السابقين والحاليين وأقربائهم من الدرجتين الأولى والثانية، بما يعني شمول الاثنين (أردوغان وداود أوغلو) وعائلتيهما.

مشهد مؤسف ظهر فيه حزب العدالة والتنمية الذي يقود البلاد منفرداً منذ 17 عاماً وكانت إحدى أهم ميزاته وحدة الصف وتماسك البنى، حين يتبادل كل من رئيسه المؤسس وقائده من جهة، ورئيسه الثاني وأهم منظرّيه سابقاً من جهة أخرى اتهامات تتعلق بالذمم المالية على الملأ.

ثمة ما هو مفهوم في السياق السياسي، إذ تتوقع الأوساط التركية أن يعلن "الخوجا" عن حزبه الجديد خلال أيام، بينما يفترض أن يؤسس الوزير الأسبق علي باباجان بدوره حزباً آخر قبل نهاية العام، أي خلال أيام إلى أسابيع كذلك، وهو ما قد يفسر شمول تصريحات أردوغان لعلي باباجان ووزير سابق آخر في الاتهامات.

ورغم ذلك، يُظهِر التراشق الإعلامي الأخير، وبغض النظر عن تفاصيل قضية الجامعة ومسارها القانوني، إلى أي حد وصلت الخلافات بين رفقاء الدرب السابقين والمتنافسين المستقبليين، وبما يوحي باحتمالية تفاقم الأمر أكثر ووصول الخصومة إلى مستويات أعلى وأسوأ.

اليوم، لم يعد أمر إطلاق أحزاب سياسية جديدة من رحم العدالة والتنمية مجرد تسريبات صحفية أو محض تخمينات، وإنما بات الأمر حقيقة ماثلة يتعامل معها الجميع بجدية وأحياناً بتوتر، وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية. ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو إلى أي مدى يمكن للأحزاب الجديدة أن تنافس الحزب الحاكم وبأي الاتجاهات يمكن أن تضر به؟

يشترك باباجان وداود أوغلو بأنهما من الشخصيات البارزة في العدالة والتنمية، فالأول أحد مؤسسيه والثاني أحد أكبر منظريّه، كما عملا معاً في الحكومات المتعاقبة لسنوات طويلة، إلا أنهما لم يتفقا (حتى اللحظة على الأقل) على العمل في إطار موحد. ولعل السبب الأكبر في ذلك هو الاختلافات بينهما وكذلك حالة التنافس الضمنية الموجودة بينهما.

ثمة أربعة فوارق رئيسة بين الحزبين المنتظرين:

فعلى مستوى الكوادر، يجمع باباجان أسماء بارزة من الوزراء والمسؤولين السابقين، ويدعمهم من الخارج الرئيس الأسبق عبد الله غل، بينما يجمع داود أوغلو الكوادر التنظيمية، مثل رؤساء سابقين لفروع العدالة والتنمية في المحافظات وبعض النواب السابقين غير المشهورين.

وعلى صعيد الخطاب، يركز الأول في انتقاداته على الملف الاقتصادي إضافة للسياسة الخارجية بدرجة أقل، بينما يتمحور معظم نقد الثاني حول الأخلاقيات السياسية والقيم والمؤسسية داخل العدالة والتنمية. وبالنسبة للأسلوب، يبدو داود أوغلو أكثر حدة ومباشرة بالمقارنة مع باباجان الذي تجنب حتى اللحظة الدخول في سجال مع أردوغان. وهي أمور تلقي بظلالها على الشريحة المستهدفة من هذا الخطاب، بحيث يؤثر خطاب داود أوغلو أكثر في حاضنة العدالة والتنمية، في مقابل خطاب باباجان الذي يستهدف الكل التركي.

ولعل هذه الفروقات مما يساعد على تفسير الحدة التي أظهرها أردوغان بمواجهة داود أوغلو مقارنة بباباجان، إضافة للأبعاد الشخصية والتكتيكات السياسية. ورغم ما يرشح من أن تقديرات الحزب الحاكم تقول بخطر أكبر من باباجان وليس داود أوغلو، قد يحتاج ذلك إلى إعادة نظر أو على الأقل التمهل حتى تعلن الأحزاب وبرامجها وكوادرها، وبالتالي يتضح رصيدها الشعبي، لا سيما وأن باباجان يفتقد إلى كاريزما القائد، ويبدو وكأنه "ظل" لعبد الله غل، بينما يتحدث داود أوغلو كقائد وزعيم منذ اللحظة الأولى.

وبالعودة إلى تأثير الحزبين الجديدين، والذي لا يمكن الجزم به قبل أن يتحولا لحالة قائمة في المشهد السياسي التركي، يمكن الحديث عن سياقات عامة. أولها أن الحزبين المنتظرين قادران على السحب من رصيد العدالة والتنمية، قليلاً أو كثيراً، بسبب المشتركات الكثيرة بينهما في الأفكار والخلفيات والإنجازات والعمل المشترك لسنوات، وبالتالي فهما قادران على مخاطبة ومغازلة الحاضنة التي تصوت له، لا سيما المحافظين منهم.

والثاني، أن الحزبين لن يؤثرا كثيراً في المشهد السياسي الحالي، إلا بافتراض استقالة عدد كبير من نواب العدالة والتنمية الحاليين للانضمام لهما، وبالتالي ارتفاع حظوظ الانتخابات المبكرة، أو حدوث الأخيرة لأي أسباب أخرى، وهو احتمال قائم لكنه ضعيف جداً وفق المعطيات الحالية.

لكن سيكون للحزبين تأثير على الانتخابات الرئاسية، لا سيما وأن الرئيس الأسبق غل يجهز نفسه ليكون مرشحاً توافقياً لعدة أحزاب في مواجهة أردوغان، من بينها حزب باباجان، ما يعني أن الرئاسيات المقبلة لن تكون أبداً بسهولة سابقتها والتي كان أردوغان حسمها بسهولة نسبية ومن الجولة الأولى، وهو ما سيكون صعباً جداً في ظل انقسام الشريحة الانتخابية للعدالة والتنمية.

التأثير الأهم للحزبين الجديدين، وأي أحزاب أخرى مفترضة من نفس الخلفية، سيكون في الانتخابات البرلمانية المقبلة. فهذه الأحزاب قادرة على جذب نسبة ما من ناخبي العدالة والتنمية، خصوصاً في ظل ما يمكن عدُّه تباطؤاً في تجاوب العدالة والتنمية مع رسائل الانتخابات الأخيرة) لم يحصل تعديل وزاري، ومؤتمر الحزب العام في توقيته الاعتيادي، (وكذلك إمكانية دخولهما البرلمان دون الحاجة لتخطي العتبة البرلمانية في ظل قانون التحالفات ساري المفعول حالياً.

وعليه، يمكن القول إن العدالة والتنمية لن يبقى على قوته الحالية ونفس حاضنته الشعبية بعد إعلان الحزبين المذكورين، لا سيما في الانتخابات المقبلة وما بعدها. كما أن رصيد الحزبين وحضورهما في الشارع سيتحدد وفق عدة عوامل، منها برنامج وكوادر وسياسات وخطاب كل منهما، ومنها الأوضاع السياسية في البلاد، ولا سيما مسار الأزمة الاقتصادية، ولكن يأتي في مقدمتها وأكثرها تأثيراً كيفيةُ تعامل أردوغان والعدالة والتنمية معهما ومع الرأي العام بالمجمل.

ثمة نقطة جوهرية يدركها الجميع، أردوغان وخصومه السابقون ومنافسوه الجدد، وهي أنه طالما بقي ردوغان في الحياة السياسية وفي قيادة حزبه فإنهما (اردوغان والحزب) سيبقيان صاحبَيْ الحظ الأوفر في الرئاسيات والبرلمانيات، رغم استمرار منحى التراجع في السنوات الأخيرة. ولذلك، يمكن القول إن باباجان وداود أوغلو (ومن يدعمهما) يؤسسان الحزبين اليوم لكنهما يضعان نصب عينيهما مرحلة ما بعد أردوغان لوراثة حزب العدالة والتنمية، شرعيةً وحضوراً وحاضنة شعبية، خصوصاً وأنه لم يبق داخل أطره الكثير من القيادات الرمزية والتاريخية القادرة على توحيد الحزب والحفاظ على تماسكه والتأليف بين تياراته المختلفة، والمتصارعة أحياناً، بعد أردوغان.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس