ياسر عبد العزيز - مدونات الجزيرة

قد يراها البعض.. هذه بتلك ونراها أبعد من ذلك، بمناسبة أعياد الطفولة وزع مرشح حزب الشعب الجمهوري في تركيا والفائز برئاسة بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو كتابا على الأطفال احتوى أمورا أثارت حفيظة جمهور المحافظين في تركيا، وأكثر ما أثار هذه الفئة هي تلك الصورة التي تضمنها الكتاب في فصل عن التسامح والتعايش بين الأديان صورة لأربعة نفر مثل أحدهم الإسلام ومثل الثاني المسيحية ومثل الثالث اليهودية وكانت الطامة الكبرى أن الرابع مثل العلوية، في رسالة مفادها أن العلويين في تركيا يعتنقون دينا غير الإسلام، وهي الرسالة التي تضرب إسفينا في مجتمع متنوع تمثل هذه الفئة رقما فيه، فهاجم المتدينين والمحافظين مرشح حزب الشعب.

بعدها بأيام وتحديدا في الجمعة التي تلت توزيع أكرم إمام أوغلو كتابه على الأطفال، قال رئيس الشؤون الدينية البروفيسور علي أرباش في خطبته (أيها الناس، إن الزنا من الكبائر أي من أكبر الذنوب والأمور المحرمة التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان، فالإسلام يلعن اللواط والشذوذ الجنسي، والحكمة من ذلك أن هذه الأمور تجلب الأمراض، وتقطع المجتمع)، هذه الكلمات كانت مفتاحا سحريا لرد العلمانيين متمثلا في نقابة المحامين لإصدار بيان تهاجم فيه رئيس الشؤون الدينية متهمة إياه بالتحريض على الكراهية والعداء، ودخلت جمعية حقوق الإنسان في أنقرة على الخط وقالت إنها سترفع دعوى قضائية ضد أرباش بما ادعت به نقابة المحامين.

يحاول البعض أن يذهب بالسيجال الدائر خلال الأسبوع الماضي إلى دائرة الصراع السياسي، وهو في ذلك محق، مستندين على بعض الشواهد، والتي كان أخرها بين الرئاسة ونقابة المحامين، حين رفضت الأخيرة حضور الاحتفال ببدء العام القضائي بسبب حضور الرئيس، فالصراع بين أدوات الدولة العميقة وتركيا الجديدة لم يتوقف منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، ليس في البرلمان ورئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، بل منذ أن وصل مؤسسه إلى رئاسة بلدية إسطنبول.

منذ عام 1994، وحتى عام 1999، استطاع أردوغان أثناء رئاسته لبلدية إسطنبول أن يحقق نجاحات في مجالات الماء والكهرباء وهو ما لم يستطع حزب الشعب أن يحققه على مدار حكمه الممتد والمتقطع في بعض الأحيان لتركيا ككل، وهو ما سبب إزعاجا للحزب، فاستغل الحزب إلقاء أردوغان أبيات من الشعر ليتهموه أنه معادي للعلمانية ويدخلوه السجن والهدف القضاء على مستقبله السياسي.

استطيع أردوغان أن ينشأ حزبا ويصل إلى رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية ويهزم حزب الشعب الجمهوري في كل الاستحقاقات الانتخابية التي واجهه فيها إلا تلك الأخيرة التي تخص اسطنبول وأنقرة في انتخابات البلديات، لكن الغريب أن أردوغان لا يترك فرصة ليتلو نفس الأبيات التي سجن بسببها إلا وينشدها: "المآذن حرابنا والمساجد قلاعنا  وقبب المساجد خوذات جنودنا".

لا كيدا في حزب الشعب الجمهوري ولكن.. في مقابلة له مع قناة الجزيرة قال الرئيس أردوغان، في سؤال عن العلمانية إن: (حزب العدالة والتنمية جاء بمفهوم جديد للعلمانية يختلف عن الشكل المعروف في تركيا سابقا)، شارحا: أن المفهوم الجديد للعلمانية يعني التعايش بين كل المجموعات الدينية والفكرية بالطريقة التي يريدونها، والتعبير عن أفكارهم كما يؤمنون بها، وقيام الدولة بتأمين كل المعتقدات.

وعلى خلاف التعريف الغربي للعلمانية بأنها أيديولوجيا رفض الاعتبارات الدينية واستبعادها ضمن الدولة، بمعنى استبعاد الدين من الأنشطة الاجتماعية المدنية، وإبعاد الرموز الدينية عن الحياة العامة، وحياد الدولة تجاه الدين، فقد أسس أردوغان مفهوما جديدا للعلمانية مستاقا مما نص عليه دستور 1937 من مبادئ لمؤسس الجمهورية كمال أتاتورك عن العلمانية، فالعلمانية عند أتاتورك (لا تعني فصل الدين عن الدولة فقط. لكنها تعني كذلك حرية المواطن العامة والدينية وحرية ممارسته لها). ومن ثم لم يلغي أتاتورك رئاسة الشؤون الدينية بل أبقى عليها وأبقى على الآذان، فمفهوم أتاتورك للعلمانية مخالف لمفهوم مدعو حماية العلمانية في تركيا.

سبعة عشر عاما من حكم العدالة والتنمية حافظوا فيها على إرث مؤسس الجمهورية، بعد أن استوعبوا مبادئها التي أسست عليها وحافظوا على القيم الدستورية وعمل بها، وقد يكون ذلك من استيعاب الرئيس أردوغان لدروس الماضي التي علمت في ظهره وظهر أستاذه أربكان من نوم السجن، في أكثر من مرة يصرح أردوغان أن شهور السجن العشرة كانت فرصة جيدة لمراجعة فكره ونهجه، لقد فهم أردوغان ما لم يفهم الحزب الذي يحكم تركيا منذ ثمانون عاما، قد يكون هناك خلط بين مفهوم العلمانية وبين الليبرالية لدى الطرفين، لكن الدور الذي يقوم به أردوغان من حماية لهذه القيم هو دور رجل الدولة الذي يحمي مجتمعه وأمته من الانزلاق لمنزلق يراد لها ولا تريده، فما من أمه انزلقت إلى التناحر إلى تلاشت وانتهت، وللرجل مكتسبات قدمها لبلاده تعجب الزراع ويغيظ بها الكفار، يريد أن يحافظ عليها لا من أجل تاريخه، وهو، ولكن من أجل أمة سرق منها مجدها ويريد استعادته.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس