ترك برس-الأناضول

لا شك أن الدولة العثمانية ليست دولة ملائكية، وتاريخها العريق يتضمن مواقف وفترات جائرة غير سوية، حتى وإن توسعت وأقامت بنيانها على أساس الدين الإسلامي، ومن أوجه هذا الجور هو حوادث القتل على السلطة والعرش.

بيد أنه لا ينبغي إغفال أمرين:

الأول: أن الدولة العثمانية ليست متفردة في هذا الأمر، فجميع الممالك والدول عانت الأمر نفسه، منها على سبيل المثال الصراع حيث نشبت فيها الصراعات على الملك والتصفية الجسدية للخصوم، سواء في الدولة الأموية أو العباسية (بين الأمين والمأمون نجلا هارون الرشيد) أو دولة المماليك وغيرها.
ومما هو غير خافٍ على كثير من القراء، أن الظاهر بيبرس أبرز رجال دولة المماليك صاحب البطولات العظيمة والخدمات الجليلة للأمة، قد ارتقى إلى السلطنة بعد أن اغتال السلطان سيف الدين قطز بطل عين جالوت وكاسر شوكة التتار.
والأمثلة على ذلك كثير، ومن ثم ليس العثمانيون وحدهم من وقعت بينهم حوادث القتل لكي يتم تسليط الضوء عليها بهذه الصورة المغرضة التي ترمي إلى إسقاط فضائل الدولة عن طريق الطنطنة حول مثالبها، وإن كنا لا نبرر لأي منها فعل ذلك.

الثاني: أن حوادث القتل على السلطة في الدولة العثمانية تم التلاعب بحقيقتها ودوافعها في كثير من الأحيان، وتم اجتزاء بعضها من سياقها التاريخي، لتُظهر في النهاية أن السلاطين العثمانيين كانوا يقتلون المنافسين المُحتملين على السلطة دون مبررات قانونية.

فمن هذه الحوادث، الزعم بأن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة، قتل عمه دوندار لمجرد أنه خالفه في الرأي، لكن الحقيقة المؤكدة والتي ذكرها خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، ونقلها عنه المؤرخ التركي "قادر مصر أوغلو"، أن دوندار كان طرفا في مؤامرة دبرها الحاكم البيزنطي "بيله جك" بغرض اغتيال عثمان وصعود دوندار إلى السلطة، وهذا أمر له مستنده الشرعي والقانوني الذي لا يقبل الجدال، وتُقره كل دساتير الأرض، وهو القتل عقوبة للخيانة العظمى.

تكرر الأمر ذاته مع السلطان مراد الأول بن أورخان ثالث سلاطين الدولة، والذي قيل عنه أنه قتل ابنه "ساوجي" خوفا على عرشه دون إبداء السبب الحقيقي لقتله، وهو أن ساوجي تآمر سرا مع الأمير البيزنطي "أندرو نيقوس" للقضاء على السلطان العثماني.
وكان ذلك في وقت يواجه فيه مراد الأول تحديات ضخمة واجتماع جيوش أوروبية عديدة لقتاله، وتمركز ساوجي مع حليفه البيزنطي على رأس جيش في مكان ليس ببعيد عن القسطنطينية، وفر الجيش البيزنطي وقُبض على ساوجي، وجمع والده السلطان العلماء للحكم عليه، وأجمعوا على قتله بسبب خيانته.

الأمر نفسه يقال في واقعة قتل السلطان مراد الثاني عمه مصطفى، حيث أن الأخير قد استدعاه إيمانويل الثاني إمبراطور بيزنطة، وأمده بالجيش والسلاح لقتال الدولة العثمانية واستولى بالفعل على مدينة وميناء غاليبولي، فسار إليه السلطان مراد بجيشه وهزمه وقام بإعدامه.

وإضافة إلى هذا فهناك حوادث مزعومة لقتل ذوي الرحم في الدولة العثمانية ليس لها أي سند تاريخي يُعتمد عليه في تقريرها، كحادثة قيام السلطان محمد الفاتح بقتل أخيه الرضيع، وهو ما نفيناه بالأدلة في مقالة سابقة.

حقيقة الفتاوى المبيحة لقتل المنافسين:

في سياق حوادث القتل على السلطة بالدولة العثمانية، يتم تداول أقاويل عن وجود فتاوى شرعية تبيح للسلاطين قتل الإخوة والأقارب من أجل حفظ النظام العام، وهي تهمة نكراء لا يثبت لها قدم، وليس أدل على ذلك من أن المراجع التي تناولت الفتاوى، ذكرتها بصورة مبهمة، ولم تحدد أسماء العلماء الذين أصدروا مثل هذه الفتاوى المزعومة، والأزمنة التي صدرت فيها.
والمفكر الأردني الراحل زياد أبو غنيمة، ينفي بشدة وجود أي سند لمثل هذه الفتاوى، ويقول في كتابه "جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك": "قرأتُ بضعة وعشرين مرجعا عربيا وتركيا وإنجليزيا تؤرخ للعثمانيين المسلمين، فما وجدت من بينها مرجعا واحدا يذكر نص الفتوى المزعومة أو يذكر اسما لعالم واحد تنسب الفتوى إليه".

وثمة أمر غاية في الأهمية، وهو أن مثل هذه الفتاوى المزعومة تتعارض مع الدور الهام والمكانة السامية للعلماء في الحقب العثمانية المختلفة، وقد مر بنا في مقالة سابقة عن الشيخ آق شمس الدين مؤدب ومربي السلطان محمد الفاتح، كيف أنه كان يقوِّمه صغيرا وكبيرا، ويتخذ معه تدابير حازمة تقيه من الاغترار بالنصر، في حين أن الفاتح كان يهابه ويُجلّه ويستجيب له.

وعندما قتل السلطان بايزيد (الصاعقة) أخاه يعقوب بناء على وشاية، حدث جفاء شديد بينه وبين علماء الشريعة يستحيل معه القول بأنهم أفتوا له بالقتل، فمن ذلك أن العالم القاضي شمس الدين الفناري، قد ردّ شهادة السلطان في إحدى القضايا فقط لأنه كان تاركا للصلاة في الجماعة.
ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي نشمند، في موسوعة التاريخ العثماني، أن السلطان ذهب يتفقد العمل في مسجد في بورصة، فالتقى العالم محمد شمس الدين البخاري، وسأله هل هناك أي نقص في البناء؟، فأجابه العالم إجابة تنم عن شدة إنكاره على أفعال السلطان، فقال: "بالنسبة لنا نحن المسلمين فإننا لا نجد أي نقص في البناء، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإنني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب".

وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه الفتوى المبيحة للقتل قد أصدرها الشيخ سعيد أحد تلاميذ الشيخ التفتازاني وجاء فيها نصًّا: "من أتاكم وأمركم على جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جمعكم فاقتلوه".
والحقيقة أن هذه الفتوى قد صدرت عام 1420م، ضد أحد قضاة العسكر وهو الشيخ بدر الدين الذي ثار على السلطان وتزعّم حركة ذات معتقدات خبيثة، وقد ذكر هذا محمد فريد بك في كتابه "تاريخ الدولة العلية"، والمؤرخ التركي عبد القادر داده أوغلو في كتابه "التاريخ العثماني المصور".

إذن كانت هذه الفتوى بحق متمرد على الدولة قام بالخروج المسلح على السلطة، وهذا كما ذكرنا له مستند ومرتكز شرعي ثابت لا مرية فيه، وتقره جميع القوانين على مختلف مشاربها.
قانون قتل الإخوة:

تعتبر المادة المعروفة بقانون قتل الإخوة المنسوبة إلى السلطان محمد الفاتح والتي تجيز للسلطان تصفية الأمراء المنافسين بالاتفاق مع العلماء، أبرز أهم القضايا التي ثار حولها الجدل.
وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين قد نفوا نسبة هذا القانون للسلطان الفاتح، إلا أن المؤرخ التركي البروفيسور أحمد آق كوندز، قد رجح ثبوت هذه المادة في قانون الفاتح ، إلا أنه قد أوضح أن القانون مقيد بإيقاعه بحق من يعلن العصيان ويحاول مغالبة السلطان بالسلاح للاستيلاء على الحكم أو التعاون مع أعداء الدولة، وله مرتكز شرعي فقهي، وهو مسألة الخروج المسلح على الحاكم الشرعي ولو كان من إخوته.

وهذا ليس موجودا فقط في قانون الفاتح، فكل القوانين تعمل به، حتى القوانين التي وضعها القرن الماضي مصطفى كمال أتاتورك للجمهورية التركية تنص بعض مواده على عقوبة الإعدام ضد كل من يحاول تجزئة تربة الوطن والعمل ضد حياده، كما أن تهمة التواطؤ مع أي دولة أجنبية جريمة تستحق الإعدام في كل القوانين بتهمة الخيانة العظمى.

وينبغي عدم إهمال الظرف التاريخي لصدور هذا القانون، وهي حوادث الانشقاقات والانقلابات والعصيان والتمرد التي مرت بها الدولة قبيل تولي محمد بن مراد الثاني شؤون الحكم، وهي قضايا بالغة الخطورة تغري الأعداء خارج البلاد للنيل من الدولة العثمانية، فكان الهدف منها حفظ النظام العام.

بيد أن هذا القانون تم تفسيره على نحو مخالف لما أريد له، ولم يعتمد الذين تناولوا هذه القضية على المصادر العثمانية في هذا الشأن، فمادة هذا القانون تتعلق بقتل من ينافس على السلطة ويتمرد عليها وليس القتل المطلق، والدليل على ذلك نص القانون نفسه، والذي جاء فيه أن ذلك ما أفتى به معظم العلماء، ولم يعهد عن أي عالم في زمانه الفاتح ولا قبله ولا بعده، قد أفتى بجواز القتل بدون أسباب.

ثم إن العلماء الجهابذة المشهورين في عصر محمد الفاتح والذين أسهموا في تربيته وتنشئته ولهم دور عظيم في الأحداث التي مرت بها الدولة ولهم مكانة وهيبة لدى السلطان أمثال الكوراني الذي اشتهر عنه بغلظته على الملوك وآق شمس الدين وغيرهما، كان هؤلاء العلماء هم صفوة أهل العلم بالدولة في هذا الوقت، ولم يؤثر عنهم أنهم أفتوا بذلك، كما يُستبعد أنهم سكتوا عن صدور الفتوى عن غيرهم كذلك.

لكن لا يستطيع أحد إنكار أن القانون تم تطبيقه بصورة سيئة في بعض العهود، واتُّخِذ ذريعة للتخلص من الإخوة والأقارب خوفا على منازعة السلطة دون وجود أسباب شرعية لهذا القتل.

فهذا القانون كان معالجة لإشكالية واقعية تتعلق بالصراعات بين الأبناء بعد وفاة السلطان، إلا أنه وإقرارًا بالحق، قد أخل بعض الحكام في العمل به، وقتلوا بالاشتباه والظن والوشاية وضلالات المفتين، وهذه بلا شك مثالب، إلا أن من يتحمل أوزارها القائمون بها، لا التاريخ العثماني بأكمله، والذي امتلأت صفحاته بالسطور المضيئة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!