ترك برس-الأناضول

تشكل تصريحات المسؤولين في تركيا وأذربيجان خلال الفترة الأخيرة بشأن العلاقات مع أرمينيا، مبعث أمل لإيجاد حل دائم للمشكلات في جنوب القوقاز، وفتح صفحة جديدة من التعاون الإقليمي ومستقبل المنطقة بشكل عام، لكن بشرط أن تتخلى أرمينيا عن مواقفها العدوانية وتتبنى مواقف بناءة.

ففي 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريحات مهمة عن العلاقات مع أرمينيا خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف، وخطابه في العاصمة الأذربيجانية باكو، خلال الاحتفال بانتصار "قره باغ".

وفي تلك التصريحات، أشار الرئيس أردوغان إلى أن تشكيل منصة سداسية سيكون في صالح جميع الأطراف في المنطقة، وأن مشاركة أرمينيا في المنصة المذكورة من شأنه أن يفتح صفحة جديدة في العلاقات التركية الأرمينية.

وشدد أردوغان، على أن تركيا ليست سعيدة بإغلاق معابرها الحدودية مع أرمينيا، وتسعى لإقامة السلام في المنطقة وتعزيز أواصر التعاون، لذلك، يتحتم على أرمينيا الابتعاد عن نهج الخطاب والسياسات العدوانية التي دأبت يريفان على اتباعه.

بدوره، تحدث الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في المؤتمر الصحفي المشترك مع أردوغان، عن صيغ التعاون الثلاثية في المنطقة (تركيا - أذربيجان - جورجيا/ أذربيجان – روسيا – إيران/ تركيا - روسيا - إيران).

وشدد علييف على أهمية توسيع تلك الصيغ، وضم أرمينيا إليها إذا ما استخلصت دروسا من الحرب الأخيرة، ونظرت بشكل أكثر إيجابية نحو المستقبل.

من جهته، أشار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في تصريحات للصحافة، إلى أن بلاده ستقرر بالتنسيق مع أذربيجان مستقبل علاقاتها مع أرمينيا، وأن هذه الأخيرة ستكون جزءا من مشاريع التعاون في المنطقة إذا ما تخلت عن مطالبها المتعلقة بأراضي جيرانها.

** تاريخ العلاقات

في الواقع، خطاب تركيا بشأن إشراك أرمينيا في مشاريع التعاون بالمنطقة ليس خطابا جديدا، ذلك أن أنقرة لطالما عملت على تأسيس بيئة تعاون في منطقة جنوب القوقاز بما في ذلك أرمينيا، حتى قبل تفكك الاتحاد السوفيتي (1991).

فبالنظر إلى سير العلاقات التركية الأرمينية، نرى أنه رغم الموقف السلبي الذي انتهجته يريفان ضد أنقرة، دأبت تركيا باستمرار على تحسين علاقاتها مع أرمينيا.

ففي 23 أغسطس/ آب 1990، اعتمد البرلمان الأرميني المادة 11 من إعلان الاستقلال، التي تتضمن عبارة "أرمينيا الغربية" في إشارة إلى مجموعة من الولايات التركية الشرقية، والتأكيد على دعم الجهود المبذولة دوليا للاعتراف بمزاعم "الإبادة الجماعية للأرمن"، فيما تنص الفقرة 2 من المادة 13 من الدستور الأرميني على أن جبل آغري (شرقي تركيا) مدرج أيضا داخل شعار الدولة.

إضافة إلى ذلك، ترفض يريفان منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، الاعتراف بالاتفاقيتين اللتان تخصان ترسيم الحدود بين أرمينيا وتركيا (معاهدة قارص 1921 واتفاقية غيومري 1920)، في الوقت الذي أصرت فيه يريفان خلال السنوات الـ30 الماضية على احتلال أراضٍ أذربيجانية ورفض أي تسوية سياسية وسلمية للأزمة.

ورغم ما سبق، سارعت أنقرة للاعتراف باستقلال أرمينيا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1991، وقدمت لها مساعدات إنسانية عاجلة خلال مرحلة الصعوبات الاقتصادية التي شهدتها البلاد عقب الاستقلال، وفتحت تركيا أراضيها وأجوائها لعبور المساعدات الإنسانية المتوجهة إلى أرمينيا.

إضافة لذلك دعت أنقرة يريفان للمشاركة في منظمة "التعاون الاقتصادي للبحر الأسود"، كعضو مؤسس، خلال مرحلة تأسيس المنظمة في 25 يونيو/ حزيران 1992.

إلا أن المواقف العدائية التي انتهجتها أرمينيا، لا سيما إقدامها على احتلال أراض أذربيجانية (بما في ذلك إقليم قره باغ) حالت دون إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية معها.

كما أن تلك المواقف، دفعت أنقرة لتحذير حكومة يريفان من مواصلة احتلال الأراضي الأذربيجانية في أوائل أبريل/ نيسان 1993، إلا أنها أصرت على مواصلة سياسة الاحتلال والتوسع فيه، ما دفع تركيا إلى إغلاق الحدود البرية والممرات الجوية مع أرمينيا.

** مشكلات وأسباب

لم تكن المحافظة على علاقات سلبية مع أرمينيا هدفا بالنسبة لتركيا، وبالتالي حاولت أنقرة مرارا تحسين العلاقات مع يريفان، ولكن لم تستطع تلك المحاولات تحقيق نتائج إيجابية، فعلى سبيل المثال، فتحت أنقرة عام 1995 الممر الجوي (H-50) أمام الطائرات الأرمينية وبدأت بتسيير رحلات جوية بين إسطنبول ويريفان، على أمل تلقي رد إيجابي من أرمينيا.

كما طالبت تركيا أرمينيا في أكثر من مناسبة، بالتخلي عن المطالبة بأجزاء من التراب الوطني التركي، وإعادة الأراضي الأذربيجانية المحتلة والسماح للمهجّرين الأذربيجانيين بالعودة إلى ديارهم، وفتح ممر برّي بين نخجوان والمناطق الأخرى في أذربيجان.

لكن لم تتلق تركيا أي رد إيجابي من أرمينيا على تلك الخطوات أو الدعوات، بل قابلتها يريفان بمواصلة الإساءة لتركيا في المحافل والمنظمات الدولية، إلى جانب توفير الدعم لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، وإظهار مواقف عدائية تجاه تركيا وخصوصا على المستوى الرسمي.

فعلى سبيل المثال، اتهم الرئيس الأرميني روبرت كوتشاريان في كلمة ألقاها في الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر/أيلول 2000)، تركيا بالمسؤولية عن ما يسمى بـ"الإبادة الجماعية"، فيما بذل وزير الخارجية الأرميني ورطان أوسكانيان (ديسمبر/كانون الأول 2004)، جهودا حثيثة في الاتحاد الأوروبي لممارسة ضغوط على تركيا، إضافة إلى تنظيم حملات لإحراق العلم التركي.

ويمكن القول إن تطبيع العلاقات التركية مع أرمينيا لم يأخذ منحى إيجابيا لأسباب عدة، بينها حالة العداء لأنقرة التي يجري حقنها للمجتمع الأرميني، وأجواء تفكك الاتحاد السوفيتي، ومطالبة أرمينيا بأجزاء من التراب الوطني التركي.

وتشمل الأسباب أيضا، التطورات التي أعقبت احتلال أرمينيا لأراض أذربيجانية، والدور غير الإيجابي الذي تلعبه الجاليات الأرمينية (اللوبي الأرمني) وتأثيرها على السياسات الخارجية لحكومة يريفان.

** مرحلة البروتوكولات

رغم ما سبق، واصلت تركيا بذل الجهود لبناء علاقات طبيعية مع أرمينيا، وأقامت جسور حوار معها عبر مسؤولين في وزارة الخارجية التركية ولجنة مشتركة تتكون من علماء ومسؤولين سياسيين، ما دفع إلى حدوث تطور في العلاقات الثنائية في صيف 2008.

وكان من أهم سمات ذلك التطور، زيارة الرئيس السابق عبد الله غول إلى يريفان في سبتمبر 2008، في إطار "دبلوماسية كرة القدم" التي أثارت ردود فعل سلبية كبيرة في أذربيجان.

خلال تلك الفترة، أفرز موقف الرئيس عبد الله غول ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو من العلاقات مع أرمينيا بعض التطورات السلبية في العلاقات الأذربيجانية التركية، ما دفع رئيس الوزراء التركي آنذاك أردوغان لإجراء زيارة إلى أذربيجان لمعالجة الآثار السلبية في العلاقات، وألقى في باكو خطابا تحت قبة البرلمان نال ترحيب الشارع الأذربيجاني.

وفي عام 2008، قدم أردوغان مقترحا بشأن اتفاقية الاستقرار في القوقاز (برنامج الاستقرار والتعاون في القوقاز)، وفي سبيل تحقيق ذلك، أجرى حينها زيارات لروسيا وأذربيجان وجورجيا لتوفير الدعم لتلك المبادرة.

إلا أن توترات ما بعد الحرب الروسية الجورجية، ووضع العلاقات التركية الروسية حينها، وعدم نظر الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة إلى المبادرة بشكل إيجابي، حال دون نجاحها.

ومع ذلك، ففي 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2009، تم التوقيع بالأحرف الأولى على مجموعة من البروتوكولات بين أرمينيا وتركيا في حفل كبير جرى تنظيمه في سويسرا.

إلا أن البروتوكولات الموقعة لم تحدث تطورا إيجابيا في العلاقات الثنائية، بسبب مواصلة يريفان إطلاق تصريحات معادية تجاه تركيا، قبل أن يعلن الرئيس الأرميني سيرج سركسيان، في خطاب تلفزيوني ألقاه في 22 أبريل/ نيسان 2010، تجميد عملية التصديق على البروتوكولات، وأعقب ذلك سحبها من البرلمان.

** مستقبل العلاقات

في الوقت الحالي، لا تزال المعابر الحدودية بين تركيا وأرمينيا مغلقة، بسبب مواصلة يريفان أنشطتها المعادية لتركيا والمطالبة بأجزاء من التراب الوطني التركي.

تحظى يريفان بدعم من اللوبي الأرمني الذي ينشط في الدول الغربية، ويستخدم مزاعم "الإبادة الجماعية" كوسيلة للقمع وتعزيز دور المصالح الإمبريالية في المنطقة وتوطيد مصالح أعضاء اللوبي والقوى السياسية في أرمينيا.

ودون تغيير السياسة العدوانية الشاملة تجاه جيرانها واحترام سلامة أراضيهم والتصرف وفقًا للقانون الدولي وروح علاقات حسن الجوار، لن تنجح أرمينيا في بناء علاقات طبيعية في المنطقة، وستبقى نموذجا للدولة الفاشلة، ليس على صعيد عجزها عن بناء علاقات طبيعية مع تركيا وأذربيجان وحسب، بل على صعيد الفشل ببناء مؤسسات دولة بالمعنى العام.

ومن أجل بناء مستقبل واعد وعلاقات طبيعية مع دول الجوار، يجب على يريفان التخلي عن المطالبة بأجزاء من التراب الوطني لجيرانها، وكذلك التخلي عن الخطاب العدواني تجاه تركيا، والسعي الجاد لتعزيز التعاون بين دول المنطقة بهدف تحويل منطقة جنوب القوقاز إلى منطقة سلام واستقرار وازدهار.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!