ترك برس

لا بد لكلّ زائر لتركيا، وخاصة إسطنبول، أن يرى على واجهات المحلات رسوماً مميزة تحكي قصة ما. هذه الرسوم هي فن توشيح النصوص بواسطة الرسوم التوضيحية المصغرة "المنمنمات" والذي ازدهر في العهود التركية المختلفة، واعتبر أحد أهم فروع الفن الإسلامي الذي عاش عصورا عديدة من النهضة في ظل الدول التركية القديمة.

ويعرض عدد من المتاجر المختصة بالفن والتحف في مدينة إسطنبول لوحات حديثة مرسومة بالمنمنمات التي تعبر عن الحياة العصرية بالرسوم والزخرفات المستوحاة من البيئة المعاصرة، بما فيها من مخرجات حضارية وتكنولوجية واختراعات.

ومؤخرا، أدرجت منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، فنّ "المنمنمات" التركي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي حول العالم.

وعلى إثر ذلك، أعلنت وزارة الخارجية التركية في بيان لها، أن عدد العناصر التركية الثقافية المسجلة في قائمة التراث الإنساني غير المادي لليونسكو وصل إلى 20 عنصرًا.

واستخدم سلاطين السلاجقة والعثمانيين المنمنمات بدوافع تمجيد الذات لتخليد ذكرهم ولتصوير إنجازاتهم وانتصاراتهم وأبرز تحولات الدولة في عهد كل منهم، كما استخدموها كوثائق تاريخية تحفظ مناسباتهم كاحتفالات التنصيب وختان ورثة العرش وحفلات الزفاف.

أما رجالات الدولة والتجار والأثرياء فوظّفوا المنمنمات لغايات جمالية ولتزيين القصور والضيع التي يملكونها بطريقة تظهر سطوتهم.

وغالبا ما تخلو رسوم المنمنمات من الأطر والخطوط المستقيمة التي ترسم الحدود لأن هذا الفن يقوم على نقل الرواية الكاملة مع ذكر أدق تفاصيلها التي تسمح المنمنمة بسردها عبر حجوم تتناسب مع أهمية الحدث والشخصية المرتبطة به.

وتتربع صور المنمنمات في الكتب والوثائق الرسمية القديمة بطريقة تشبه الرسوم التوضيحية في الرسائل العلمية والدراسات البحثية، وتعوض الصور المرفقة في الكتب الملونة وكأنها رسوم الإنفوغراف في عصرنا الحديث.

ورغم اختفاء عصور السلاطين الذين تعهدوها كفنٍّ تقليدي، فإن هناك من الرسامين الأتراك قلة ما زالت تتفنن في صناعة المنمنمات بجهود فردية خلقت لها موطئ قدم أمام طوفان فنون الحداثة.

تعرّف موسوعات الفنون التركية المنمنمات بأنها فن من الرسم عالي الدقة لا يعتمد في إظهار الصورة على الضوء ولا الظل، وترى بعض المراجع أن أصل الكلمة يعود إلى اللاتينية (Miniare) التي تشير إلى اللوحة المرسومة باللون الأحمر .

ويقول بعض الباحثين في تاريخ الفنون التركية، إن المنمنمات تعكس روح الفن الإسلامي الذي يمزج بين ثقافات العرب والصين وفارس وبيزنطة والحضارة اليونانية الغابرة، لكنها ازدهرت على وجه التحديد في ظل الإمبراطورية الإيغورية التي بلغت أوج عظمتها في بلاد الأناضول بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين.

وعرف الأتراك المنمنمات في عصور مبكرة، فقد شكلت جزءا من طقوس العبادة في الديانة المانية التي اعتنقوها قبل الإسلام، ثم عاشت عصرها الذهبي مع سلاطين العثمانيين الذين نقلوها للأمصار فظهرت في مصر والشام وبغداد.

وطور هذا الفن مدارسه الخاصة في شمال أفريقيا وآسيا الصغرى والشرق الأوسط وأجزاء من أوروبا خلال الفترة العثمانية، الأمر الذي يفسر ارتباطه بالفن الإسلامي الذي تبناه العثمانيون هوية لتراثهم الجمالي.

الأكاديمية والباحثة بمعهد الفنون الجميلة بإسطنبول غوكشة سونميز، قالت إن العثمانيين تحديدا وجدوا في المنمنمات فنا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية التي تبيح الرسم والتطريز الجمالي وترفض رسم الوجوه أو نحت التماثيل التي تصور وجوه الشخوص، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت."

وتشير إلى أن المنمنمات ما زالت إلى يومنا الحالي تعكس ثقافة القصور التي كانت تزين جدرانها وتهدى من رجالات الدولة إلى الحكام والسلاطين، حيث تقول سونميز إن صور المنمنمات من أثمن ما ترك العثمانيون خلفهم من فنون.

كان سلاطين العثمانيين يفضلون استخدام كلمتي "الرسم والتطريز" على استخدام كلمة المنمنمات التي تناقلها الأتراك جيلاً بعد جيل، لتظل رسومها محفوظة على أوراق المراسلات العثمانية في المتاحف ومكتبات المخطوطات الرسمية المنتشرة في تركيا.

وفي العصر الحديث، تتيح المنمنمات للباحثين دراسة العادات والتقاليد ونمط الحياة الذي ساد في فترة ما، أما من حيث الشكل فقد أثرت المحتوى البصري للموروث الثقافي والأدبي من العهد العثماني، ووفرت مادة غنية للباحثين في التاريخ والفنون وعلم الاجتماع.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!