ترك برس

تناول تقرير موسع نشره موقع ميدان الشبابي التابع لشبكة الجزيرة القطرية، السياقات والدوافع المحيطة بصفقة صواريخ "إس-400" للدفاع الجوي، والأسباب التي تدفع أنقرة للتمسُّك بالمنظومة الروسية رغم الخلاف الذي تُثيره مع الولايات المتحدة وحلف الناتو.

وبحسب التقرير، لم يكن تسلُّم تركيا لمنظومة "إس-400" الروسية في عام 2019 حدثا عاديا، حيث كان ذلك توجُّها غير مسبوق لدولة عضو في حلف الناتو لشراء منظومة أسلحة متطورة من روسيا.

ومنذ ذلك الحين لم تكف الصفقة عن إثارة الجدل والتوترات في العلاقات التركية الأميركية مع تهديدات بتوقيع عقوبات على أنقرة. ومع قدوم إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، يأمل البلدان الحليفان أن ينجحا في الخروج من الأزمة الأكبر في علاقاتهما منذ السبعينيات.

وجاء في التقرير:

كان ديفيد ساتّرفيلد واصلا لتوّه للعاصمة التركية أنقرة، يوم الأربعاء العاشر من يوليو/تموز 2019، مُتطلِّعا لمباشرة مهامه الجديدة بعد أن اختاره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سفيرا للولايات المتحدة، وأهمها على الأرجح بذل محاولة أخيرة لإثناء النظام التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان عن صفقة شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس-400" التي أُبرِمَت مع موسكو، وإدارة العلاقات المعقّدة حاليا مع تركيا، وكيف لا وهو الرجل نفسه الذي تولّى منصب القائم بأعمال السفير الأميركي في القاهرة بين أغسطس/آب 2013 ويناير/كانون الثاني 2014 خلال فترة عصيبة من العلاقات مع مصر، وكان على رأس المرشحين لتولّي منصب السفير فيها قبل عامين، قبل أن يُقرِّر رئيسه أن يُبقيَه لمهمة أكثر صعوبة في ذلك الوقت.

بيد أن ساتّرفيلد وصل متأخرا على ما يبدو، فبعد أن وطأت أقدامه العاصمة التركية بيومين فقط، وصلت أول أجزاء منظومة الدفاع الصاروخي "إس-400" بالفعل إلى قاعدة "مُرتَد" الجوية الواقعة شمال غرب العاصمة أنقرة على مسافة ليست ببعيدة من السفارة الأميركية، حيث حطّت طائرتا نقل روسيتان قبل أن تهبط منهما معدّات عسكرية روسية تحت مرأى ومسمع وسائل الإعلام التركية التي نقلت بفخر لحظات التسليم صباح الجمعة 12 يوليو/تموز من العام نفسه، في إشارة واضحة إلى مُضيّ تركيا في قرارها -غير المسبوق لدولة من حلف الناتو- بالحصول على نظام دفاع صاروخي روسي.

تزامن كل ذلك مع حلول الذكرى السنوية الثالثة لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في 15 يوليو/تموز 2016؛ ذكرى وثيقة الارتباط بقاعدة "مُرتَد" الجوية نفسها، والمعروفة حتى سبتمبر/أيلول 2016 باسم قاعدة "أقينجي"، إذ اتخذها ضباط القوات الجوية المدبّرون للانقلاب مقرا رئيسيا لهم آنذاك، واحتجزوا فيها رئيس الأركان خلوصي أكار قبل أن تتدخل القوات الخاصة التركية لتحريره ورفاقه، ويُقصَف مدرج الطائرات الخاص بها لمنع الطيّارين المشاركين في الانقلاب من الإقلاع، وهي قاعدة سرعان ما عوقبت على دورها المحوري في الانقلاب بتحويلها من قاعدة مركزية يقودها ضابط برُتبة عقيد (أو أعلى) وتحوي الطائرات دائما إلى قاعدة عادية تُستَخدَم فقط في استضافة عمليات محددة ويقودها ضابط أقل رُتبة، وكان قائدها الأخير هو الجنرال المدبّر للانقلاب أكِن أوزتورك قبل اعتقاله.

وبمقتضى حالة الطوارئ المُعلنة إبان الانقلاب الفاشل، انتقلت 60 طائرة من طراز "إف-16" من القاعدة ووُزِّعَت على قواعد جوية أخرى في ولايات أسكيشهير وقونيا وأماسيا، في حين أُعيدت تسمية القاعدة باسمها القديم "مُرتَد"، الذي سُمِّيت به وقت تأسيسها عام 1960 نتيجة لقُربها من منطقة "مُرتَد" غرب أنقرة، وهي منطقة سُمِّيت بذلك الاسم منذ هزيمة السلطان بايزيد الأول فيها على يد تيمورلنك وجيشه عام 1402، حيث لعبت خيانة بعض قوات بايزيد من أعيان الأناضول وفرارهم من المعركة دورا في هزيمته، ومن ثم سُمِّيت المنطقة بـ "مُرتَد" في إشارة إلى ارتدادهم عن واجبهم في دعم السلطنة العثمانية، وهو اسم ظل ملازما للقاعدة الجوية تلك حتى عام 1995 حين تقرَّر تغييره إلى "أقينجي"، قبل أن يعود بعد 21 عاما إلى اسمه الأصلي إثر خيانة أخرى أشد وطأة.

لم يكن قرار هبوط أول أجزاء "إس-400" قبيل ذكرى الانقلاب في هذه القاعدة من قبيل المصادفة إذن، فقد كان الانقلاب الفاشل في القلب من توتر العلاقات التركية الأميركية على مدار السنوات الخمس الماضية، نظرا لما تعتبره أنقرة تقاعسا أميركيا عن التعاون في ملاحقة مدبّريه، وأشهرهم وفق ادعاءات تركيا فتح الله كولن الموجود بولاية بنسلفانيا، بل واتهامات أردوغان المبطنة للولايات المتحدة بتمرير الانقلاب، وأشهرها اتهامه لجوزيف فوتيل، قائد القيادة العسكرية المركزية الأميركية (USCENTCOM) بين 2016-2019، بالانحياز لمدبري الانقلاب في الجيش، وذلك نتيجة اعتراض واشنطن المستمر على حملة "التطهير" التي تمت في الجيش ونالت من آلاف الضباط، وتُثار الشكوك باستمرار حول قانونيتها.

توترت العلاقات التركية الأميركية، ولم تلبث موسكو أن دخلت على الخط لتضع يديها على كل الثغرات في تلك العلاقة في سعيها المستمر منذ سنوات لتقويض التحالفات الأميركية وإفساح المجال لنفوذها المتزايد، فقد نجحت في ضمّ تركيا إلى مسارها الدبلوماسي حيال الأزمة السورية بحضور أردوغان لقمة أستانة الأولى في يناير/كانون الثاني 2017، ثم سلسلة من القمم الدبلوماسية في مدينة سوتشي الروسية منذ مطلع عام 2018، علاوة على إغلاق موقع سبوتنيك الروسي الناطق بالكُردية نزولا على رغبة تركيا، ورفع العقوبات الروسية المفروضة على أنقرة على خلفية إسقاط طائرة روسية في 2015، وأخيرا والأهم، توقيع صفقة "إس-400" في نهاية 2017.

لكن تلك لم تكن المرة الأولى التي تتوتر فيها علاقات أنقرة بواشنطن، إذ كُتِبَت أولى صفحات ذلك التوتر حين استحوذ الجيش التركي على شمال قبرص عام 1974 لحماية سكانها الأتراك من هيمنة ثلثي سكان الجزيرة من اليونانيين القاطنين في الجنوب، وهي معركة رفضها الأميركيون لأنها وضعت حليفين داخل الناتو -تركيا واليونان- وجها لوجه في فترة أراد فيها الأميركيون توحيد الصفوف الغربية لمواجهة الاتحاد السوفيتي، ومن ثم فرضت واشنطن حظرا على تصدير السلاح إلى تركيا لثلاث سنوات؛ ضربة موجعة لا تزال آثارها باقية دفعت الأتراك لتأسيس شديد الجدية لصناعتهم العسكرية، لكنها لم تدفعهم أبدا للبحث عن البديل العسكري من روسيا، عدوّها التاريخي، حتى وقعت أحداث غيّرت كل الأمور بلا عودة محتملة في أي وقت قريب.

هذه المرة اندفعت أنقرة في سابقة تاريخية نحو التسليح الروسي الثقيل والمتطور على خلفية أزمتها الجديدة مع واشنطن، لا سيّما أنها تبحث منذ وقت طويل بالفعل عن نظام دفاع صاروخي يحمي أجواءها من الأخطار المحيطة بها في منطقتَيْ الشرق الأوسط وشرق أوروبا حيث تزداد فاعلية وقوة الحركات المسلحة فيهما، وكذلك يقل الالتزام الأميركي بتأمين حلفائهم، وهو ما دفع بالأتراك لفتح الباب أمام أطراف عدة لتقديم عروضها للجيش التركي من أجل سد تلك الفجوة في الدفاع الصاروخي عام 2007، حيث تعاقبت العروض لأربع سنوات من موسكو لتزويد الأتراك بنظام "إس-300" القديم، ومن بكين لتزويدهم بنظام "إتش كيو-9″، ومن فرنسا وإيطاليا معا لتزويدهم بنظام "يورو-سام"، ومن لوكهيد مارتن الأميركية لتزويدهم بنظام "باتريوت".

كان العرض الروسي أول ما أخرجته تركيا من حساباتها آنذاك، في حين أشارت التوقُّعات إلى وقوع الاختيار على الأميركيين أو الأوروبيين نظرا لتخلُّف الصين التكنولوجي عن منافسيها الثلاثة، لكن المفاجأة أتت عام 2013 باختيار الصين، لتبدأ مفاوضات طويلة ظن الأتراك أنها ستكون الأسهل من أجل الحصول على صفقة نظام دفاع صاروخي صيني تشمل تصنيعا مشتركا لبعض أجزائه وتُتيح لأنقرة فيما بعد صناعة نظامها الخاص وتمنح الصناعات العسكرية التركية نقلة لا بأس بها لمواكبة منافسيها، لكن المفاوضات مع الصين لم تُثمر عن الاتفاق المأمول، ومن ثم اختيرت فرنسا وإيطاليا في الأخير مطلع 2018، وأصبحت تركيا عضوا في مجموعة "يوروسام" لتطوير نظام دفاع صاروخي مشترك، لكن الاتفاق تزامن مع توقيع اتفاق مشابه ومفاجئ مع روسيا للحصول على "إس-400" الأكثر تطوُّرا من "إس-300".

لم يكن "إس-400" مطروحا من قبل من جانب الروس لبيعه لدول أخرى، لكن موسكو فتحت الباب لتصديره بصفقة مع الصين عام 2014 تسلّمت الأخيرة على إثرها أول دفعة من بطاريات "إس-400" مطلع 2018 وشغَّلتها بالفعل في صيف العام نفسه، ثم أتى الدور على الهند لإبداء رغبتها في الحصول على النظام نفسه من روسيا عام 2016، لِتُوقَّع صفقة بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018 للحصول على خمس نُسَخ منه دون أن يبدأ التسليم بعد نتيجة للضغوط الأميركية المستمرة للآن، ولكن حين أتى الدور على تركيا كانت المفاجأة، ليس فقط لأنها دولة أقل وزنا من الصين والهند لتحصل على نظام روسي متطور بهذا الشكل بعد سنوات قليلة من طرح الروس له، ولكن أيضا لأن "إس-400" سيكون غريبا على ترسانتها العسكرية وعلى ضباطها غير المعتادين على التعامل مع سلاح روسي أو سوفيتي.

لا تُنشئ الدول تحالفات أو شراكات من أجل التسليح بين ليلة وضحاها، ولا تتم صفقات الدول لشراء أسلحة مركزية وثقيلة مثل "إس-400" بمعزل عن بيئتها الإستراتيجية أولا، وما تحتويه ترسانتها العسكرية ثانيا، ولذا كان طلب الصين ثم الهند لـ "إس-400" وحصول الأولى عليه بالفعل أمرا متوقعا ومنطقيا، فالصين تنتمي منذ عقود طويلة لبيئة تواجه فيها حصرا حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، كما تمتلك ترسانة بنتها بمزيج من التكنولوجيا المحلية المتطورة نسبيا والسلاح الروسي الذي حصلت عليه في مراحل مختلفة من تاريخ تحالف البلدين المتقطع، أما الهند فكانت ولا تزال أكبر مُشترٍ للسلاح الروسي في العالم بحُكم تحالفها مع السوفييت خلال الحرب الباردة، ومن ثم فهي تملك ترسانة سوفيتية ضخمة لطالما بحثت عن شركاء لتطويرها (وقد قامت إسرائيل بدور في ذلك التطوير مرات عدة مؤخرا)، علاوة على صراع مستمر بينها وبين باكستان صاحبة التاريخ الطويل من التحالف مع الأميركيين والترسانة المليئة بأسلحة أميركية متطورة مثل "إف-16″، ومن ثم فإن "إس-400" يُحدِث نوعا من التكافؤ بين الهند والصين، وكذلك يمنحها حصنا إضافيا في حالة وقوع حرب مع باكستان.

هُنا تأتي غرابة الصفقة التركية الروسية، فالترسانة التركية شبه خالية من أي سلاح سوفيتي، إذ تأتي وارداتها العسكرية بشكل شبه حصري من الولايات المتحدة وأوروبا، فـ 60% مما تستورده أنقرة من السلاح أميركي، و17% إسباني، و15% إيطالي (وتركيا هي أكبر مستورد للسلاح الإيطالي في العالم)، ومن ثم تصبح 92% من واردات السلاح لتركيا بين عامَيْ 2014-2018 أميركية وأوروبية طبقا لتقرير "سيبري" السنوي (3)، ويُضاف إلى ذلك صناعة عسكرية محلية معتمدة حصرا أيضا على شراكات تكنولوجية مع دول حليفة للغرب، آخرها شراكة "يوروسام" مع فرنسا وإيطاليا كما ذكرنا، ومنها كذلك برنامج تطوير دبابة "ألطاي" الناجم عن شراكة تركية-كورية جنوبية، وشراكة مع الولايات المتحدة لإنتاج طائرات "إف-35" توقفت بعد بدء تسليم "إس-400″، وشراكة مع إيطاليا وبريطانيا لإنتاج مروحيات "أتاك"، وشراكة مع بريطانيا لإنتاج طائرة مقاتلة تركية، وشراكة مع ألمانيا لتصنيع غواصات بموجب رُخصة من شركة "ثيسّن كروب"، وشراكة مع اليابان في مجال الفضاء والأقمار الصناعية، وغيرها الكثير.

على المنوال نفسه، تذهب معظم صادرات الصناعة العسكرية التركية إلى دول حليفة للغرب بالنظر لشراكاتها الغربية والتكنولوجيا التركية-الغربية المكوّنة لها، فعلى الرغم من توتر العلاقات السياسية بينهما للمفارقة، تُعَدُّ الإمارات العربية المتحدة أكبر مشترٍ للسلاح التركي في العالم، حيث استحوذت وحدها على 30% من صادرات تركيا بين عامَيْ 2014-2018 طبقا لتقرير "سيبري"، لتكون تركيا ثالث أكبر مورّد للسلاح لأبوظبي بعد الولايات المتحدة وفرنسا، وتلي الإمارات بنسبة 23% دولة تركمنستان الأقرب لتركيا في آسيا الوسطى والقريبة لواشنطن أيضا منذ غزو الأخيرة لأفغانستان، وتُعَدُّ تركمنستان الدولة الوحيدة غير العضوة بمنظمة شانغهاي الروسية-الصينية، وتليها في قائمة أكبر مستوردي السلاح التركي وبنسبة 10% المملكة العربية السعودية مرة أخرى للمفارقة، رُغم الخلافات السياسية الجذرية بين أنقرة والرياض منذ الربيع العربي عام 2011، علاوة على نسبة صادرات كبيرة تتجه لباكستان وماليزيا وأذربيجان.

في ظل تلك الترسانة الغربية الضخمة، والشبكة المعقدة من الشراكات التكنولوجية وخطوط الاستيراد والتصدير الغربية أيضا، سيكون "إس-400" غريبا على الأراضي التركية؛ غريبا بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إن نظام الدفاع الصاروخي المفترض فيه رصد الطائرات الصديقة والعدوّة بوضوح، سيرصد الطائرات العسكرية التركية كافة باعتبارها أجسام "غير معروفة" له باستثناء أي طائرة تركية الصنع بشكل خالص، وذلك نظرا لرفض موسكو منح الأكواد الإلكترونية الخاصة بـ "إس-400" للجيش التركي، ومن ثم عدم قدرته على تغيير أو تحديث أدوات الرصد والتعقُّب بحيث تتعرف على أنواع الطائرات الموجودة على الأراضي التركي، ولذا فإن عيون النظام الصاروخي ستظل "روسية" إن جاز القول، يُضاف إلى ذلك عدم استفادة تركيا من التصنيع المشترك الذي حرمها منه الروس، وعدم معرفتنا ما إن كانت نُسخة "إس-400" المخصصة لتركيا مطابقة للنظام الأصلي أم أنها لا تحوي إمكانيات نظيرتها كافة المشغّلة في روسيا كما يُشير الباحث بمركز التحليل البحري الأميركي مايكل كوفمان، إذ إن احتمالية حصول تركيا على نُسخة "مقلّمة الأظافر" من "إس-400" واردة جدا بالنظر للتنافس المستمر بين البلدين في البحر الأسود والقوقاز والشرق الأوسط.

لم تكن عضوية تركيا في حلف الناتو يوما مثار جدل بين أقطابها السياسية الرئيسة العلمانية والمحافظة على السواء، فقد تم قرار الانضمام للحلف تحت حكومة عدنان مندريس، أول حكومة تركية منتخبة مباشرة وتنتمي للشرائح الاجتماعية المحافظة على العكس من النُّخَب العلمانية التي حكمت لربع قرن تقريبا وبدون إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية، وعلى الرغم من اهتمام العلمانيين بالتغريب على المستوى الثقافي في حين التزم المحافظون بالحفاظ على الروابط الشرقية والدينية للشعب التركي، فإن كلا القطبين رأى في حلف الناتو ركنا أساسيا للإستراتيجية التركية لمواجهة هاجس القوة الروسية السوفيتية التي أحاطت بتركيا في شرق أوروبا والقوقاز، علاوة على حرمانها من الاضطلاع بدورها الثقافي الناعم في آسيا الوسطى المرتبطة تاريخيا بالأتراك، وكذلك الانحياز الطبيعي الذي شكَّل تاريخ علاقة الروس باليونان والمسيحيين الأرثوذكس في البلقان الذين وقفوا عادة في خانة منافسة للوجود التركي، يُضاف إلى ذلك أخيرا العلاقة القوية التي تشكَّلت بين موسكو والنظام السوري تحت رئاسة حافظ الأسد، ولا يُستثنى من ذلك الإجماع التركي إلا قطاعات من القوميين المتطرفين، وكذلك اليسار الراديكالي في السبعينيات، ولم يمتلك أيٌّ منهم قواعد اجتماعية مُعتبرة.

كانت روسيا هي الهاجس إذن حتى انطفأ نجمها مع انهيار الاتحاد السوفيتي؛ انطفاء تنفس الأتراك الصعداء على إثره، وشرعوا في مد جسورهم شرقا وغربا لاستعادة أدوارهم المختلفة، في القوقاز خاصة مع أذربيجان وجورجيا، والبلقان خاصة البوسنة وألبانيا المسلمتين، وآسيا الوسطى، وكذلك شرق أوروبا حيث تتمتع تركيا ولا تزال بعلاقات متميزة مع أوكرانيا، وكانت تحالفات تركيا الغربية حاضرة في كل ذلك، حيث حظي الدور التركي ضمنيا بدعم غربي لما شكَّله باستمرار من ضغط على روسيا في مساحات نفوذها التاريخية، ولكن تلك الحقبة السعيدة لم تدُم طويلا، وسرعان ما عادت موسكو للتعافي في أواخر العقد الماضي، أولا بالاستحواذ على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا، وثانيا بالاستحواذ على شبه جزيرة القرم بكل ما تُشكِّله من مركزية في البحر الأسود، وثالثا بالتمدُّد في شرق أوكرانيا، وأخيرا بتوسيع دورها العسكري في سوريا.

وبينما عادت روسيا لتصبح الهاجس الرئيس في معظم الدوائر المحيطة بتركيا، تصاعدت تحركات أنقرة لبلورة تحالفات عسكرية مناوئة لها، أبرزها أوكرانيا في البحر الأسود إبان الأزمة مع موسكو، ففي عام 2016 بدأ التعاون بين شركة "أوكروبورونبروم" الأوكرانية للصناعات العسكرية ونظيرتها التركية "هاولسان" لإنتاج معدات رادار للرصد والتعاون في مجال الطيران، ثم شهد العام 2017 اتفاقا بين شركة "أوكرينماش" الأوكرانية و"هاوِلسان" لتأسيس مركز مشترك للأمن السيبراني، وكذلك اتفاقا بين شركة "أنطونوف" الأوكرانية لصناعة الطائرات والشركة التركية للصناعات الجوية والفضائية لتطوير وإنتاج الطائرات المُسيّرة (تجدر الإشارة إلى أن الطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية الروسية ركنان رئيسان في الحرب على أوكرانيا)، وقد كشفت "أنطونوف" عام 2018 عن طائرة "AN-188" للنقل العسكري المصنوعة بصورة مشتركة بين البلدين، بالإضافة إلى تجربة صاروخ "سكيف" المضاد للدبابات المصنّع بين البلدين أيضا.

على المنوال نفسه، تبلور تحالف ثلاثي بين تركيا وجورجيا وأذربيجان عبر سلسلة اجتماعات لوزراء الدفاع بدأت عام 2014 للتعاون في مجال التدريب، وتطوير التكنولوجيا العسكرية والتصنيع العسكري المشترك، وكذلك القيام بتدريبات عسكرية مشتركة تهدف لحماية البنية التحتية للطاقة، وأهمها خط أنابيب الغاز باكو-تبليسي-جيهان الذي يمر عبر البلدان الثلاثة ويحمل الغاز الأذربيجاني لأوروبا منافسا بذلك الخطوط الروسية، علاوة على محاولات مستمرة من جانب تركيا لجذب البلدين الصغيرين إلى الاندماج الفعلي في بنية حلف الناتو، التي وصلت لمشاركة أذربيجان في مهمات لحلف الناتو بالفعل تحت لواء العَلَم التركي، في حين تظل العلاقة التركية الجورجية العسكرية أقل تشعبا، حيث تعتمد تبليسي بالأساس على الروابط الغربية المباشرة مع برلين وواشنطن، يُضاف إلى ذلك تعاون بدأ مؤخرا في مجال الأمن السيبراني لحماية البنية التحتية للطاقة بين الدول الثلاث من الهجمات السيبرانية المحتملة عليها.

في الدوائر الجغرافية كافة الواقعة إلى شمال تركيا إذن ليس ثمة مجال لاستخدام "إس-400″، لأن الهاجس ببساطة هو القوة الروسية نفسها التي يستحيل استخدام تلك المنظومة ضدها، ومن ثم يصبح الاتجاه الوحيد للبحث عن العدو الذي تحتمي منه تركيا بالمنظومة الروسية هو الجنوب، حيث نجد إيران التي بإمكانها استهداف قواعد أميركية على الأراضي التركية إذا ما تعرّضت لضربة أميركية مثلا، وبجانب إيران فهناك النظام السوري المحتمل دخوله في أي احتكاك عسكري مع نظيره التركي المسيطر فعليا على مساحة صغيرة من الأراضي السورية، ولعلنا نجد احتكاكا مستبعدا مع جنوب قبرص أو اليونان نتيجة الصراع على الغاز الطبيعي بشرق البحر المتوسط، غير أن أيًّا من تلك المخاطر لا تسوّغ خطوة "إس-400" الغريبة على ترسانة تركيا، فإيران وسوريا دولتان خبيرتان بالسلاح الروسي وتمتلكان "إس-300″، ومن ثم فالسلاح الغربي أكثر نجاعة في أي مواجهة ممكنة معهما، بجانب أن اليونان تملك أيضا "إس-300″، علاوة على أن وقوع حرب مفتوحة بين الطرفين تدفعهما لاستخدام بطاريات الدفاع الجوي هو احتمال ضئيل، كما يُشير الباحث اليوناني ثيموس تسالّاس، احتمال لن يُسمح له بالتفاقم من جانب حلفائهما في الناتو وجيرانهما في القارة الأوروبية.

يبقى أخيرا الخطر الذي يُشكِّل الضغط حاليا، وإن كان الأبسط تسليحا، وهو الخطر الكردي القادم من قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، حيث يغلب على مقاتليها الانتماء لحزب العمال الكردستاني، الذي تشن الدولة التركية منذ 2015 حملة عسكرية ضده بعد سنوات من عملية سلام لم تؤتِ أُكلها، خاصة أن الحزب يتمتع بدعم أميركي حصل عليه بعد مشاركته مع التحالف الغربي لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ "داعش"، وحصوله على سلاح وتدريب أميركي على مدار السنوات القليلة الماضية عكّرت صفو العلاقات الأميركية التركية؛ سلاح لعل بطاريات "إس-400" قد استُجلِبَت لوقفه، لكن الواقع هو أن الحزب بحاجة إلى عشرات السنين قبل أن يتمكَّن من حيازة سلاح يُمكِّنه من تشكيل خطر على الأجواء التركية بما يستدعي بطاريات من هذا النوع، كما يُشير الباحث المتخصص بالشؤون الروسية والأوراسية لدى هيئة البحوث الإستراتيجية الدولية بالعاصمة أنقرة كريم هاس، فالحزب يظل ميليشيا بتسليح محدود تحتاج إلى أنظمة وإستراتيجيات عسكرية من نوع آخر على عكس "إس-400" الموجّه عادة لأسلحة غربية ثقيلة تملكها دول ذات وزن مثل طائرات "إف-16" أو صواريخ باليستية أو غيرهما.

وعليه، إن لم تكن روسيا أو إيران أو اليونان أو النظام السوري أو الأكراد هم العدو الذي يُشكِّل خطرا، فمَن إذن يمكنه أن يُهدِّد الأجواء التركية بسلاح غربي مُتطوِّر يستدعي معه صفقة بحجم "إس-400" عطّلت حصول تركيا على أحدث طائرة مقاتلة أميركية بكل ما في برنامج إنتاجها من مزايا اقتصادية وتقنية، لتجلب ضيفا غريبا إلى ترسانتها العسكرية؟ مَن يمكنه أن يُحلِّق بطائرة "إف-16" ويُهدِّد بها تركيا؟

لم تكن طائرة واحدة؛ بل اثنتين حلّقتا على مقربة من طائرة الرئيس وثبّتتا أجهزة التصويب الصاروخي عليه وعلى طائرتين أخريين -للمفارقة من الطراز نفسه "إف-16"- كانتا تقومان بتأمين الطائرة المستهدفة وأردوغان على متنها في طريقه إلى إسطنبول، في حين حلّقت طائرات أخرى على ارتفاعات منخفضة فوق إسطنبول وقصفت أخرى مقر البرلمان في العاصمة أنقرة في ليلة طويلة شهدت أول محاولة انقلاب عسكري في تركيا منذ العام 1980؛ محاولة باءت بالفشل، لكنها سلّطت الضوء على شروخ كثيرة بين أجنحة المؤسسة العسكرية، والقوات الجوية خاصة، وتلتها إجراءات غير مسبوقة لتغيير موازين القوى داخل الجيش جرت على قدم وساق طوال السنوات الخمس الماضية ولا تزال جارية.

في معرض احتجاجهم واندهاشهم من اتجاه تركيا نحو شراء "إس-400″، أكّد العشرات من صُنَّاع القرار والمحللين في الغرب أن البطاريات الروسية ستكون عاجزة عن القيام بمهامها كاملة بدون الاندماج في بنية سلاح الجو التركي بشكل أوسع، بالنظر إلى كون القوات الجوية التركية سلاحا مندمجا في بنية حلف الناتو الذي يرفض لأسباب منطقية أن تكون "إس-400" جزءا منه لكيلا يُسمح للأجهزة الروسية الكامنة فيه بالتعرُّف على أساليب وأنماط القتال لأسلحته، ومن ثم فإن فالبطاريات الروسية على الأرجح ستظل نظاما قائما بذاته، وكأنها تخلق فقاعات دفاعية حول أهداف بعينها بدلا من حماية الأجواء التركية كلها كما يجدر بمنظومة دفاعية شاملة كما يُشير الباحث التركي كريم هاس.

بيد أن ذلك ربما هو كل ما يريده أردوغان من "إس-400″؛ أن تمنحه تلك القدرة على حماية أهداف محددة للدولة التركية من أية محاولة انقلابية جديدة، وكبح طائرات قواته الجوية نفسها إذا ما فكّرت بتكرار ما فعلته في 15 يوليو/تمّوز 2016، وسيكون عليه هذه المرة أن يُشغِّل البطاريات ليس إلا، دون الحاجة إلى تحريك طائرات مضادة لها وخوض معركة لساعات كما حدث قبل ثلاثة أعوام، وبالنظر إلى التسليح الغربي شبه الكامل لتلك القوات، يكون منطقيا أن يتجه الرجل نحو التكنولوجيا الروسية لإحداث التوازن المطلوب، لكنه توجُّه مثير للتساؤلات حول قبضته في الداخل التي تظل مُعرَّضة على ما يبدو لسيناريو انقلابي مشابه رُغم كل ما اتُّخِذ من إجراءات ضد الضباط المناوئين له.

يقول مسؤولون أميركيون إن عددا من نظرائهم الأتراك عبّروا في اجتماع جرى عام 2018 عن رغبتهم في شراء نظام دفاع صاروخي لمواجهة أخطار عدة، وكان من بين الأخطار الرئيسة التي ذكروها القوات الجوية التركية نفسها. "لقد أشار مسؤول تركي إلى أن قوات تركيا الجوية تظل الخطر الأبرز على الحكومة الحالية، فهي تملك طائرات تابعة لحلف الناتو واستخدمتها من قبل في محاولة ضرب منشآت حكومية واغتيال الرئيس أردوغان"، هكذا تحدّث مسؤول أميركي حضر الاجتماع دون أن يُفصِح عن هويته لوكالة رويترز، في حين أشار آخر إلى أن هناك أزمة ثقة بين أردوغان وقواته الجوية، وأن اندماج تلك القوات في منظومة الناتو الأوسع أمر لا يريده أردوغان، لأنه يمنحها تحكُّما واسعا في الأجواء التركية على الرغم مما توفّره من حماية لأجوائها، ولعل ذلك يُفسِّر استمرار رغبة تركيا في الحصول على بطاريات باتريوت الأميركية كما أكَّد وزير الدفاع خلوصي أكار غداة وصول "إس-400" إلى أنقرة، وكذلك استمرارها في مشروع "يوروسام" باعتبارها المشاريع الدفاعية التقليدية المتناغمة مع سلاح الجو لحماية تركيا من الأخطار التقليدية.

من ناحيته يرى الباحث التركي المرموق سونر جاغبطاي أن حماية النظام جزء من دوافع صفقة "إس-400″، لكن الدافع الرئيس يظل الثقة المتآكلة بين أنقرة وواشنطن فيما يخص الأكراد في خضم الفوضى السورية، التي تصبح معها أجواء تُركيا عُرضة لأنواع شتى من الأسلحة التي انتشرت هناك، وبالتحديد بأيدي حزب العمال، لا سيما إن حصل على أسلحة أميركية أكثر تطوُّرا إذا ما جرت تسوية ما تمنحهم حكما ذاتيا، أما الروس فيملكون حليفا مركزيا هو نظام الأسد، ومن ثم فإنهم أكثر مرونة في التخلي عن العلاقة الجيدة مع الأكراد، وهو ما أظهره بوتين بالفعل كما يُشير جغبطاي، ويُفسِّر اتجاه تركيا نحو نظام دفاع صاروخي روسي وإن لم يكن سيُستخدم لمواجهة أسلحة الأكراد البسيطة، لكنه يُعبِّر عن علاقة جيدة بين الغريمين ستُعين تركيا على تأمين أجوائها مستقبلا بوجه واحدة من أكثر مناطق العالم اشتعالا.

لكن فقدان الثقة ببنية التحالف الغربي والتقارب مع روسيا على الرغم من عداوات تاريخية سابقة ليس نمطا بدأته تركيا، فقد سبقتها بضع دول شرق أوروبية شرعت في التودُّد إلى الروس تحت تأثير موجة اليمين رغم تضارب المصالح، وكذلك دول عدة بالشرق الأوسط فقدت الثقة جزئيا في واشنطن بعد أن حاولت التناغم مع قوى سياسية جديدة بعد 2011، وباتت تعتقد أن علاقة وثيقة مع روسيا -غير مشروطة بخطوات ديمقراطية أو حقوقية بطبيعة الحال- مهمة لتأمين النظم السياسية فيها، التي تسير جنبا إلى جنب مع الروابط العسكرية الأميركية المعتادة، ولكن سير تركيا على تلك الخُطى كان مفاجأة ثقيلة بالنظر إلى جيشها المركزي في حلف الناتو؛ مركزية يسعى أردوغان لتقويض انعكاساتها على الداخل، وليس فقط بشراء منظومة جوية روسية غريبة على ضباط سلاح الجو وقادرة على إيقافهم، بل وبدعم أجنحة صديقة لروسيا داخل الجيش نفسه.

"الأوراسيون" كما يُعرفون داخل صفوف الجيش التركي هُم مجموعة من الضباط القوميين المتطرفين الذين تصفهم وثيقة من وثائق ويكيليكس بأنهم "راغبون منذ وقت طويل في إيجاد بديل للولايات المتحدة، ويتطلعون لعلاقات أقرب مع روسيا"، في مقابل الأطلنطيين الذي يعتقدون أن مصالح تركيا لا تزال وثيقة الصلة بحلف الناتو؛ والمجموعة الأخيرة تلك كان نجمُها في طريقه للأفول وفق الوثيقة، التي تعود للعام 2003، وهو ما يشي باطلاع عميق لدى صُنَّاع القرار بالسفارة الأميركية في أنقرة منذ وقت بعيد، لكن المفارقة هي أن الأوراسيين رزحوا تحت نيران أردوغان طويلا على مدار عقد كامل حين تحالف مع حركة كولن، قبل أن ينقلب التحالف لعداوة، ومن ثم يصبح الأوراسيون أصدقاء الرئيس الجُدد لملء المناصب التي أُفرِغَت في الجيش والقضاء.

لعب الأوراسيون بصلاتهم الروسية دورا مركزيا في التنسيق الروسي التركي أثناء عملية درع الفُرات، تماما كما فعلوا لدحر الانقلاب من أجل حماية مناصبهم الجديدة، حيث تُشير مجلة فورين بوليسي إلى أن أحد نجوم مواجهة الانقلاب في الجيش، الضابط الأوراسي زكائي أقساقلّي، كان قائد القوات الخاصة في درع الفرات بعد ترقيته، علاوة على الدور المتزايد لمجموعة "دوغو برينتشك"، المحامي العجوز والقومي العلماني المتطرف الكاره للغرب والقائد لجناح قوي داخل الأجهزة الأمنية الآن كان متهما سابقا بالتدبير لانقلاب على الحكومة عام 2007، لكنه اليوم هو مَن يساعد للمفارقة في تطهير الدولة من الانقلابيين جنبا إلى جنب مع رجال أردوغان الأوفياء من الشباب الإسلامي الذي يملأ صفوف شركة "سادات" للخدمات الأمنية وتهدف لـ "تعاون عسكري صناعي بين الدول الإسلامية" كما يشير الموقع الرسمي لها، ويُعتقد أنها ساهمت في مواجهة الانقلابيين بالشوارع قبل ثلاث سنوات.

يُمثِّل الانقلاب إذن في تركيا خطرا حقيقيا، لكن هل يأتي من الأطلنطيين كما هو الحال اليوم أم من الأوراسيين كما كان في السابق؟ هي مسألة نسبية تُقرِّرها طبيعة المشهد السياسي، ويُقرِّرها بالطبع أردوغان وفق تحالفاته المتغيّرة وما تستتبعه من روابط دولية، وخياراته في هذه اللحظة هي أن نيران القوميين أفضل من جنة كولن، وأن تنسيقا شديد الوعورة مع الروس أفضل من تحالف مألوف مع الأميركيين الذين لم يعد على وفاق مع حلفائهم داخل الجيش التركي، أما "تركيا الجديدة" فتبدو رهينة لعبة قديمة جدا حتى اللحظة على عكس ما أراد أردوغان في سنواته الأولى، وهي لعبة وثيقة الارتباط بثنائية موسكو-واشنطن كما كانت دوما منذ سنوات الحرب الباردة.

في هذا السياق يُمكن فهم الدافع الأهم لصفقة "إس-400″، فاعتبارات الصفقة ليست عسكرية محضة، وإن كانت مفيدة كما أشرنا لتحصين النظام ضد أية محاولة انقلابية أخرى، وكذلك في مواجهة ضئيلة الاحتمال مع اليونان أو مع حزب العمال مستقبلا إذا ما فاق تسليحه الخطوط الحمراء، بل هي اعتبارات سياسية بالأساس تهدف عن طريق البطاريات الروسية إلى تقويض مركزية الأطلنطيين في السيطرة على الأجواء التركية من خلال التدريب الروسي لتشغيل البطاريات الذي سيكون على الأرجح من نصيب الأوراسيين، وهو ما أكَّده مسؤول تركي في حوار مع المستشار السابق للشؤون العسكرية والكاتب حاليا متين كورجان، قائلا: "لم يعد شراء ’إس-400‘ مسألة فنية، بل تحوَّل إلى عملية سياسية محضة.. لقد بات صُنَّاع القرار والمواطنون يرونها مسألة سيادة".

بينما تتعقَّد خطوط الإسلاميين والقوميين داخل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، دون أن نعرف ما إن كان صدام محتمل بينهما بوصفهما عدوَّين قديمين يلوح في الأفق، وبينما يأفل نجم الأطلنطيين كما تنبَّأت وثيقة ويكيليكس، وتحِل بطاريات الروس ضيفا غريبا وجديدا على الأراضي التركية، يظل موقف الشارع التركي مختلطا بين الترحيب بالسلاح الروسي المدفوع بمشاعر قومية، وذلك وفق استطلاع للرأي أجرته جامعة "قدير هاس" أظهر موافقة 44% على الصفقة واعتراض 25% وامتناع 31% عن التعليق، وبين التمسُّك الأكثر شعبية بعضوية الناتو بالنظر للأخطار المتزايدة والصراعات الجارية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وهو ما أظهره الاستطلاع نفسه حيث أظهر دعم 70% من الأتراك اليوم لعضوية الناتو؛ دعم يتزايد منذ عام 2011 على العكس مما قبلها حيث وقفت النسبة عند 53% عام 2010.

أخيرا، وعلى الرغم من خروج تركيا من برنامج تطوير الطائرة المقاتلة "إف-35" واحتمالية وقوع عقوبات اقتصادية عليها، تأمل الولايات المتحدة والنظام التركي في الخروج بأقل خسائر ممكنة في العلاقة بين الطرفين. فمن جانبها، تظل تركيا متمسكة بالفوائد السياسية التي جلبتها الصفقة مع موسكو، مع هامش للتفاوض حول إمكانية تجميد تشغيل المنظومة في حال التوصُّل إلى اتفاق لتوفير البدائل مع الولايات المتحدة والناتو، وهي صفقة يبدو أن إدارة ترامب لم تكن تمانع في القبول بها، بينما لا يزال موقف إدارة بايدن غامضا. وفي ظل استمرار سيادة الشد والجذب بين أنقرة وواشنطن، يأمل أردوغان أن ينجح في إدارة التناقضات التي تواجهها السياسة التركية بين أهمية التقرُّب من موسكو لتحقيق أهداف أنقرة السياسية من ناحية، وحتمية الحفاظ على الروابط الأميركية للحماية من الأخطار التقليدية من ناحية أخرى، وبين الحفاظ على ولاء القوميين المتطرفين من الضباط، وتأسيس ذراع منفصل من المقاتلين المحافظين في آنٍ واحد، وبين كسر شوكة سلاح الجو في الداخل وتطهيره من الانقلابيين وبين الحفاظ على جاهزيته ومستواه وخبرة ضباطه الكبار في الوقت نفسه؛ خيوط تلتقي كلها في عُقدة صفقة "إس-400" لعل سيرها يُحدِّد ما إن كان أردوغان سيتمكَّن من الإمساك بكل تلك الخيوط أم أن أحدها -أو كلها- سيُفلت منه.


المصدر: ميدان الجزيرة

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!