د. علي حسين باكير - عربي 21

ما الذي يدفع تركيا ومصر إلى مناقشة التقارب بينهما مؤخراً؟ ولماذا الآن بالتحديد وليس في وقت سابق؟ ما الذي تغيّر وأفضى إلى مثل هذا الأمر؟ ما هي الظروف المشتركة أو الملفات المهمّة التي لعبت دوراً في هذا السياق؟ وما هي الأهداف النهائية لكل منهما؟

تبدو التحوّلات التي وقعت في الآونة الأخيرة على المستوى الإقليمي والدولي عاملاً مهمّاً في حسابات سياسات إعادة التموضع التي اعتمدتها دول المنطقة، لاسيما الانتخابات الرئاسية الأمريكية نهاية العام الماضي وإتفاق العلا الخليجي الذي تبعه. فرض التغيير الذي حصل في الولايات المتّحدة ومجيء جو بايدن إلى السلطة بدلاً من دونالد ترامب انطباعاً بقرب اعتماد سياسيات مغايرة وممارسة ضغوط عالية على القاهرة وأنقرة فيما يتعلق بالملفات الإشكالية المرتبطة بكل دولة (ملف حقوق الإنسان على سبيل المثال في الحالة المصرية)، و(ملف ميليشيات "واي بي جي" الكردية أو الأرمن في الحالة التركية).
 
علاوةً على ذلك، فإنّ تراجع أهمّية الملفّات الملتهبة في الشرق الأوسط في سلّم أولويات واشنطن فضلاً عن تراجع أهمّية المنطقة بالنسبة لها تعني أنّ على القوى الإقليمية أن تتعاون بشكل أكبر وأن تأخذ زمام المبادرة. وفي هذا الإطار، فقد كان لملفي شرق البحر المتوسط وليبيا بالتحديد الفضل في تأمين الأرضية المشتركة للمفاوضات بين تركيا ومصر، وهما ملفّان لم يبرزا إقليمياً بشكل قوي إلا في عام 2020.

عندما اندلعت الأزمة الخليجية عام 2017، وقفت مصر إلى جانب كل من السعودية والإمارات والبحرين، فيما وقفت تركيا إلى جانب قطر. ومن البديهي أنّ إعادة ترتيب الوضع الخليجي من خلال إتفاق العلا ـ وإن شكلياً ـ يفتح الباب بشكل تلقائي أمام إمكانية حصول ترتيبات مصريّة ـ تركيّة. الاتفاق الذي تمّ دون تشاور مع المصريين ودون أخذ رأيهم أو مطالبهم بعين الاعتبار معطوفة على إتفاقات التطبيع الإماراتية ـ الإسرائيلية أشعر الجانب المصري بتدني قيمته الاستراتيجية بالنسبة إلى دول الخليج خاصّة بعد التصريحات الإيجابية التي صدرت تجاه تركيا من دول يفترض أن تجمعها خصومة بأنقرة كالإمارات والسعودية. 

في المقابل، تفاعلت تركيا بشكل إيجابي مع الامر واندفعت باتجاه عملية تقارب مع الدول الخليجية. في الحسابات المصريّة، إذا تحقق هذا التقارب دون أن تكون القاهرة حاضرة فيه، فسيؤدي إلى تهميش أكبر لمصر. في المقابل، إذا نجحت القاهرة في بناء تفاهمات مع تركيا، فقد تصبح هي، عوضاً عن بعض الدول الخليجية، دولة محورية في الملفات الساخنة في المنطقة. فضلاً عن ذلك، فإنّ علاقات مصرية ـ تركية أفضل، قد تخفّف من نفوذ بعض الدول الخليجية في مصر وتتيح مراوحة أكبر من الخيارات الإقليمية للقاهرة. على المقلب الآخر، فإنّ تفاهماً تركياً مع القاهرة سيضعف من التحالف الذي أقيم ضدها في شرق البحر المتوسط وليبيا، وقد يؤثر في نهاية المطاف على حسابات هذه الدول ويدفعها الى التقارب مع أنقرة بدلاً من معاداتها. 

وفي ما يتعلق بالحسابات الفردية لتركيا ومصر، يمكن الإشارة الى أمرين:

أولا ـ استنفاد أغراض القوة الصلبة في الحالة التركية والرغبة في تثمير نتائجها على شكل اتفاقات سياسية. خلال العامين الماضيين استخدمت أنقرة قدراتها العسكرية بشكل غير مسبوق على الصعيد الإقليمي. ساعدها ذلك في تحقيق إنجازات في وقت قصير في عدد من الساحات الإقليمية، لكنّه وضع ضغطاً شديداً على مواردها، وهو أمر لا تستطيع الحفاظ على وتيره بشكل مفتوح. في حال نجاح التفاهم مع مصر، فإنّ ذلك سيضمن تثمير جزء من الجهد على شكل اتفاقات سياسية تحفظ لأنقرة مصالحها في شرق المتوسط وليبيا بأقل التكاليف الممكنة.

وفيما يتعلق بالحسابات المصرية، فإنّ تفاهماً مع أنقرة في شرق المتوسط سيعطي القاهرة مساحة بحرية هائلة. وفي حال اكتشاف المزيد من الغاز فقد يعزز ذلك من موقف مصر الجيو ـ اقتصادي إقليمياً بشكل كبير. فضلاً عن ذلك، فإنّ عدداً لا بأس به من المصريين يرى أنّ موقع مصر الجغرافي يخوّلها امتلاك نفوذ و/ أو مصالح في كامل ليبيا بدلاً من حصره في شرق البلاد، ولا يمكن لذلك أن يتم في الوقت الحالي دون تفاهم مع تركيا.

ثانيا ـ ملف سد النهضة الإثيوبي 

خلال العام الماضي، لوحظ أنّ الجانب المصري إندفع بشكل غير عقلاني ومغاير للمنطق تحت يافطة الأمن القومي لتغليب الخصومة مع تركيا في الملف الليبي على حساب التطورات الجارية في ملف النهضة والتي كانت ولا تزال تفترض أن تتصدّر قائمة أولويات القاهرة عندما يتعلق الامر بأمن مصر. وسواءً كان موقف القاهرة آنذاك نابعاً من حسابات سياسية أو مدفوعاً من بعض الدول كالإمارات على سبيل المثال، فقد أدى ذلك الى أضرار جسيمة في وضع القاهرة في ملف نهر النيل، حيث تبدو اليوم متأخرة وغير قادرة على منع أثيوبيا من مواصلة خططها. إذا ما استمر الامر على هذا الحال، فقد يشهد ملف النيل تصعيداً كبيراً لاحقاً، ومن غير الممكن لمصر حينها التركيز عليه في ما إذا أبقت جبهتها مع تركيا في ليبيا وشرق المتوسط مفتوحة وخصومتها معها قائمة.

هذه الحسابات تفترض أن يتم تبريد جبهات التوتر بين تركيا ومصر على أقل تقدير، والبحث عن المصالح المشتركة.

حقّق الطرفان تقدّماً ملحوظاً خلال فترة وجيزة، ومن المنتظر أن تكون هناك زيارة لوزير خارجية مصر إلى تركيا ـ يعقبه عودة للسفراء إذا سارت الأمور على ما يرام. لا يعني ذلك أنّ العلاقة بين البلدين ستكون خالية من التحديات أو المشاكل، لكنّها تعني أنّهما إتفقا على ألاّ تعطّل المواقف المتضاربة قدرتهما على اللقاء والبحث عن المصالح المشتركة. سيكون هناك متضرّرون من مثل هذا الأمر إن حصل، وسيكون هناك معرقلون، لكن مدى قدرة الطرفين على تجاوز هذه التأثيرات ستعتمد على مدى قدرتهما على البناء على المصالح المشتركة بينهما.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس