سعيد الحاج - أخبار تركيا

شهدت الأيام القليلة الماضية دليلاً آخر على شكل “تركيا الجديدة” التي يسعى لها العدالة والتنمية ويروّج لمشروعه بخصوصها، باعتبارها “جمهورية ثانية” تختلف عن – أو ربما تتعارض مع – الجمهورية الأولى التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923. وربما يكون أحد أهم تمايزات الثانية عن الأولى هو “أتاتورك” نفسه، اسماً ودلالة.

فأتاتورك هو الرمز الأول والأوحد للجمهورية التركية منذ عشرات السنين، بتوجهاتها العلمانية والقومية والتغريبية، وقد رفعه خلفاؤه إلى مرتبة مقدسة في البلاد، حتى سُنـَّت القوانين لتجريم انتقاده، ونـَصَّت الدساتير المتعاقبة على حماية مبادئه التي أسس عليها الجمهورية، حتى كانت إحدى مهام الجيش التركي هو الحفاظ على هذه المبادئ (قبل أن تتغير هذه المادة في الدستور في عهد العدالة والتنمية)، في سنوات كان يُفرض فيها على كل صاحب شركة أو حانوت أو مكان عمل أن يعلق صورة له في صدرها.

ولئن كان الحزب الحاكم يسعى نحو تجديد المبادئ التي يفترض أن تقوم على أساسها “تركيا الجديدة”، فإنه يبدو عازماً على كسر هالة التقديس التي تحيط بمؤسس الجمهورية الأولى، وإن لم يعمد – وأعتقد أنه لن يعمد – إلى النيل منه أو مهاجمته.

في التاسع عشر من شهر أيام/مايو من كل عام تحتفل تركيا “بعيد الشباب والرياضة وذكرى أتاتورك”، وهو التاريخ الذي دخل فيه مصطفى كمال ورفاقه مدينة سامسون وأرّخ به الأتراك لبداية حرب الاستقلال، بعدما احتـُلــَّتْ أجزاء واسعة من الأناضول بعيد الحرب العالمية الأولى.

تقليدياً، كان عيد الشباب والرياضة مناسبة للاحتفاء بالرجل أكثر من اليوم أو الذكرى، فتنظم المهرجانات والمؤتمرات والفعاليات المختلفة التي تمجّد فيه وفيما قام به لأجل بلاده، وكانت معظم هذه الأنشطة تركز على طلبة المدارس الابتدائية، الذين كانوا يُجمعون في استادات كرة القدم في هذه الفعاليات الكبيرة.

العام الفائت، أصدرت وزارة التعليم التركية قراراً بوقف مشاركة الطلاب في هذه الاحتفالات الجماهيرية في استادات الرياضة المفتوحة، وترك الأمر لكل مدرسة على حدة وداخل جدرانها، باعتبار أن الطقس ليس دافئاً بما يكفي في هذا التاريخ وهو ما قد يعرض الأطفال للبرد والمرض (!).

أما هذا العام فقد شهد موقفاً جديداً أثار انتقادات المعارضة العلمانية على نطاق واسع. فقد غاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء عن مراسم زيارة قبر أتاتورك في ذلك اليوم، وهو تقليد متبع في تركيا منذ عشرات السنين، واقتصرت المشاركة الحكومية على وزير الشباب والرياضة فقط. أما في تقسيم، الميدان الأشهر وسط اسطنبول، فقد غاب أي مسؤول حكومي – بما في ذلك محافظ المدينة ورئيس البلدية – عن مراسم وضع إكليل من الزهور على نصب أتاتورك هناك، وهو ما استدعى تقريعاً ضمنياً من نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري الذي علق على هذا الغياب قائلاً: “لا أعتقد أنهم غابوا متعمدين عن مناسبة كهذه، أرجو أن لا يكون قد أصابهم عارض صحي خطير”.

وليس الأمر مقتصراً على ذكرى دخول سامسون، بل ألغيت في عهد العدالة والتنمية – خلال رئاسة الرئيس السابق عبدالله غل – عدد من الاستقبالات والاحتفالات الرسمية “بعيد الجمهورية” أو “عيد النصر”، تارة بحجة الزلزال الذي ضرب مدينة فان، وطوراً بذريعة مرض الرئيس غل بالتهابات في أذنه، وثالثة بسبب حصول هجمات “إرهابية” في البلاد. أما اردوغان، فقد ألغى أول احتفال بعيد الجمهورية في عهده بسبب حادثة حصر ومقتل عمال أحد المناجم. 

كما أن العدالة والتنمية ذهب إلى ما هو أبعد من مجرد الاحتفالات والذكريات، وهو اسم “أتاتورك”، الذي يعني بالتركية أب أو جد الأتراك، وهي دلالة مهمة وموحية، ولذلك يمتنع اردوغان وعدد كبير من قيادات الحزب الحاكم عن ذكره بهذه الصيغة، ويكتفون بصيغة “مصطفى كمال”.

هذه التطورات والمواقف، وغيرها مما هو متعلق بنظام التعليم والمناهج مما قد لا يتسع له المجال في عجالة هذا المقال، يظهر بوضوح أن موضوع الهوية والتوجه موجود وبقوة في قلب رؤية العدالة والتنمية لمشروع “تركيا الجديدة” الذي يريد إعلانه في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية أي في عام 2023. ورغم عدم تعرض الحزب لمؤسس الجمهورية بأي سوء أو تجاوز، إلا أنه من الواضح أن مجرد “إزالة هالة القداسة” عن الرجل هو هدف كبير من أهدافه على طريق تأسيس الجمهورية الثانية بكل ما تعنيه وتحويه من رؤية وهوية ودور ومكانة ومستقبل لتركيا.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس