د. سمير صالحة - أساس ميديا

لا يتحدّث التقرير الذي نشرته الأكاديمية الوطنية للاستخبارات التركيّة، على شكل دراسة من نحو 50 صفحة تحت عنوان “حرب الـ12 يوماً: دروس لتركيا”، عن احتمالات وقوع مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل. لكنّه يستعرض بالتفصيل خارطة الطريق التي ينبغي أن تعتمدها تركيا عند تحليل النتائج والعبَر المستخلَصة من الحرب الإسرائيلية – الإيرانية التي وقعت في شهر حزيران المنصرم.

مسار الحرب ونتائجها، على الرغم من سرعة اندلاعها وتوقّفها، يقدّمان كمّاً هائلاً من المعلومات السياسية والدبلوماسية، والتكتيكات العسكرية، والتكنولوجيا المتقدّمة، والعمليات الاستخبارية، والجاهزيّة اللوجستية التي ينبغي الانتباه إليها والتعامل معها، كما يؤكّد التقرير.

من الواضح تماماً أنّ تركيا أيضاً، كما أوجز التقرير، تستعدّ لكلّ الاحتمالات والسيناريوهات التي قد تتّجه نحو التصعيد العسكري في الإقليم. الهدف هو تزويد صانع القرار التركي بحزمة من المقترحات لاتّخاذ التدابير والإجراءات اللازمة، بما يمكّن تركيا من سدّ الفراغات، مستفيدة من كلّ تفصيل شهدته المواجهات الإيرانية – الإسرائيلية.

سوريا ساحة المواجهة

سوريا هي المكان الأكثر سخونة في التوتّر التركي – الإسرائيلي اليوم. شاركت الولايات المتّحدة في الحرب الإسرائيلية التي شنّتها تل أبيب على طهران قبل أسابيع، فكيف سيكون موقفها عند اندلاع مواجهة تركية – إسرائيلية في المنطقة؟

من هذا المنطلق، تدرك تل أبيب أنّ مغامرة دخولها مواجهة عسكرية مباشرة مع تركيا في سوريا تتطلّب تعبئةً وحشداً غربيّاً، وهو ما لا يتوافر في هذه الآونة. اللاعب الفرنسي وحده هو الذي قد يهمّه حدوث انفجار من هذا النوع، يورّط واشنطن، ويربك حساباتها الإقليمية، ويستهدف الصعود التركي الذي اخترق أكثر من ساحة نفوذ فرنسية في شرق المتوسّط وليبيا وإفريقيا وجنوب القوقاز.

ما تحاول واشنطن فعله حتّى الآن هو رسم خطوط فصل بين نفوذ البلدين في سوريا، لكنّ الكثير من المؤشّرات الميدانية تشير إلى استحالة التزام أنقرة وتل أبيب ما تقوله إدارة ترامب، خصوصاً أنّ بنيامين نتنياهو يصرّ على دخول اختبار الاحتكاك العسكري مع تركيا حتّى لو لم تقف واشنطن إلى جانبه.

شرعت تركيا بعد تراجع نظام بشّار الأسد عن المشهد السياسي في إعادة ترتيب أوراقها، وبدأت تبحث عن شريك محلّي قادر على ضمان استقرار حدودها الجنوبية ومواجهة التهديدات الأمنيّة القادمة من شمال شرق سوريا. التحالف التركي – السوري الجديد يتقدّم في ظلّ مصالح مشتركة تحمل في طيّاتها أهدافاً استراتيجيّة متعدّدة فرضتها التوازنات الإقليمية الجديدة.

إسرائيل بين الدّروز والأكراد

تقلق إسرائيل من هذا التقارب، إذ ترى فيه تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ورقتها البديلة هي تحريك ملفّ النفوذ الدرزي – الكردي على خطّ جنوب سوريا وشرق الفرات، حيث يشكّل الربط الجغرافي بين المنطقتين محوراً استراتيجيّاً بارزاً في المشهد السوري الجديد.

تحاول تل أبيب منع أيّ ثقل عسكري يسمح بترسيخ النفوذ التركي في جغرافيا سوريّة قريبة من حدودها، والعكس صحيح. المواجهة هنا تقوم بين من يفرض واقعاً ميدانياً يمكّنه من الاقتراب جغرافيّاً من حدود الآخر.

قناعة الكثيرين هي أنّ مواجهة عسكرية تركية – إسرائيلية ستبقى محدودة، لأنّ التوازنات الإقليمية لا تسمح بأكثر من ذلك. إنّها التوازنات نفسها التي حالت دون مزيد من التصعيد ضدّ إيران، على الرغم من الدخول الأميركي المباشر على خطّ المعارك. لن تسمح واشنطن لتل أبيب بهدم ما تبنيه من منظومة علاقات سياسية على أكثر من جبهة في الشرق الأوسط، مستغلّةً تبدّل التوازنات الإقليمية وقبول كثير من العواصم بالرهان على ما تقوله وتفعله إدارة ترامب.

أقلقت الإنجازات التي حقّقتها القيادة السوريّة الجديدة خلال الأشهر الماضية كثيرين ممّن تضرّرت حساباتهم ومصالحهم في الداخل والخارج.

إسرائيل ومن يراهنون عليها أو تراهن هي عليهم في سوريا هم من أبرز الغاضبين حيال التوازنات الجديدة التي تبنيها حكومة الشرع، محليّاً وإقليميّاً، بدعم عربي وتركي وغربي. ووصل هذا الدعم قبل أيّام إلى روسيا نفسها من خلال زيارة وزير الخارجية السوريّ أسعد الشيباني لموسكو ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي سابقة دبلوماسية لا يمكن إغفالها.

يدور الحديث في الداخل التركي عن انطلاق تدريب وتجهيز عسكريّ واسع للقوّات السوريّة النظاميّة، بهدف تمكين الدولة الجديدة من بناء مؤسّساتها وجاهزيّتها القتالية خلال فترة زمنية قصيرة. تل أبيب لا تعرف متى يُنجز ذلك، لكنّها ستستغلّ كلّ ذريعة لمهاجمة الأراضي السوريّة واستهداف ما تريده، في محاولة للردّ على هذا التنسيق الواسع بين أنقرة ودمشق.

تزامُن الخروقات الأمنيّة على جبهتَي الجنوب والشمال مع توغّل عسكري إسرائيلي جديد في عمق الأراضي السوريّة، تحت ذريعة “منع تموضع عناصر إرهابية على الحدود مع إسرائيل”، يوجز حجم القلق والتحسّب ممّا يجري.

الثّعلب والأسد

كيف ستتعامل أنقرة مع أيّة مطالبة درزيّة أو كرديّة بالتدخّل العسكري الإسرائيلي للوقوف إلى جانبهما في مواجهة دمشق؟ أو مع دعوة سوريّة رسميّة للتدخّل العسكري التركي المباشر ردّاً على الاعتداءات الإسرائيلية اليوميّة على المدن السوريّة؟

أوضح “شاي غال”، كاتب عمود في صحيفة “إسرائيل هيوم”، بأنّ “الوجود التركي في شمال قبرص لا يمثّل تهديداً للقبارصة اليونانيين فحسب، بل لإسرائيل أيضاً”. ونسمع أحد المتطرّفين الإسرائيليّين يهدّد: “في حال تمادى الجولاني، فسوف نفتح دمشق بكتيبتين خلال 3 ساعات”.

يستند الردّ التركيّ على التحرّشات الإسرائيلية إلى طرح مفاده: لو كانت واشنطن جادّة فعلاً في تبنّي المسار السياسي الجديد في سوريا، لما تركت إسرائيل تخترق يوميّاً حدود وخطوط التوازنات الحسّاسة القائمة في سوريا اليوم. قد تتجاهل واشنطن هذه الاستفزازات والتهديدات الإسرائيلية اليومية، لكنّها ستلزم تل أبيب في نهاية الأمر بضرورة قبول سياسة أميركية – سوريّة جديدة يقودها السفير توم بارّاك، وتتّجه نحو إعلان مزاج أميركي مغاير يقوم على المساهمة في بناء دولة سوريّة منفتحة على الإقليم دون استثناءات.

الراجح أنّ إسرائيل تسعى إلى جرّ تركيا إلى مواجهة عسكرية محدودة، ضمن استراتيجية أوسع لإعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، بعد ما جرى على خطّ طهران – تل أبيب، وأنّ أنقرة قد تعطيها ما تريد.

يُروى أنّ الثعلب طلب من الأسد أن يتبادلا الأدوار ليوم واحد… فعاد الأسد ملكاً في اليوم التالي، وأمّا الثعلب فاستمتع بالضوء حتّى اختفى ظلّه.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس