د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ *} [الانعام :  34]. يتفاوت والأنبياء والمرسلون في الصبر، فبالرغم من الصبر العظيم من يوسف عليه السلام لا يعني أنه فاق أولي العزم من الرسل في الصبر والتقوى، فقصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أعظم، والواقع فيها من الجانبين، فما فعله الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه، وإظهار اياته، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومجاهدة المكذّبين لهم، والصبر على أذاهم، هو أعظم عند الله، ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسفُ عليه وعنه، وعبادتهم لله وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه أعظمُ من طاعة يوسف وعبادته وتقواه، أولئك أولو العزم الذين خَصّهم الله بالذكر في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *}  [الاحزاب :  7] وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *}  [الاحزاب :  7] وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}  [الشورى :  13]، وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة.(ابن تيمية،1995، ج16، ص130-135)

  وفي قصة يوسف عليه السلام من جوانب الصبر العظيمة ما يدلنا على ما هو أعظمُ صبراً من يوسف عليه السلام، ففي قول يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ *}  [يوسف :  33]. عبرتان:

إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي.

والثانية: طلبُ سؤال الله ودعائه أن يثبّتَ القلبَ على دينه، ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلبُ صبا إلى الامرينَ بالذنوبِ، وصار من الجاهلين، ففي هذا توكل على الله، واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان به والطاعة.

  وهذا كقول موسى عليه السلام لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *}  [الاعراف :  128]. لما قال فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *}  [الاعراف :  127 ـ 128].

وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *}  [النحل :  41 ـ 42].

فلا بدّ من التقوى بفعل المأمور، والصبر على المقدور، كما فعل يوسف عليه السلام: اتقى الله بالعفّة على الفاحشة، وصبر على أذاهنّ له بالمراودة والحبس، واستعان بالله ودعاه، حتى يثبته على العفّة، فتوكّل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس، ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة الله على الكرامة والعز في معصية الله، كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الصالحين، كانت العاقبة له في الدنيا والاخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيماً وسروراً، كما أنّ ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعيم بالذنوب ينقلب حزناً وثبوراً.

فيوسفُ خاف الله من الذنوب، ولم يخف من أذى الخلق وحبسهم إذ أطاع الله، بل اثرَ الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنّه لو وافق امرأة العزيز لنال الشهوة وأكرمته بالمال والرئاسة، فاختار يوسف الذلَّ والحبسَ وتركَ الشهوة والخروجَ من المال والرياسة مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية، بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق وإن اذاه بالحبس والكذب، فإنّها كذبت عليه، فزعمتْ أنّه راودها، ثم حبسته.(ابن القيم،1989،ج2، ص156)

كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء أخوته له في الجُبِّ وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإنّ هذه أمورٌ جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأمّا صبره عن المعصية، فصبرُ اختيارٍ ورضًى، ومحاربةٍ للنفس، ولا سيّما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنّه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعزباً ليس له ما يعوّضه، ويردّ شهوته، وغريباً، والغريب لا يستحي في بلدِ غربته مما يستحي منه مَنْ هو بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً، والمملوك أيضاً ليس له وازعٌ كوازع الحرِّ، والمرأة جميلةٌ، وذاتُ منصب وجمالٍ، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشدَّ الحرص، ومع ذلك توعّدته إن لم يفعل بالسجن والصَّغار، ومع هذه الدواعي كلِّها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!.(ابن القيم،1989،ج2، ص169)

وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، على ما نالهم من الله، باختيارهم وفعلهم، ومقاومتهم قومهم ـ أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسبباً في فعله، وكذلك صبر إسماعيل  الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام على تنفيذ أمر الله أكملُ من صبر يعقوب على فقد يوسف.(ابن القيم،1989،ج2، ص157)

هذا هو صبرُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذه هي تضحياتهم.

وإذا أردنا أن نقتدي بهم في هذا الخلق العظيم، وأن ننتفع به كما انتفعوا، فلابدّ في هذا الصبر من شروطٍ ثلاثٍ:

أ ـ أن يكون الصبر بالله، والمراد بذلك الاستعانة بالله سبحانه ورؤيته أنه هو المصبِّر، وأنَّ صبرَ العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل: 127]

ب ـ أن يكون لله، وهو أن يكون الباعثُ له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأغراض.

ج ـ أن يكون الصبر مع الله، وهو دورانُ العبد مع مراد الله الديني منه، ومع

أحكامه الدينية سائر بسيرها، مقيماً بإقامتها، أي يجعل نفسه وقفاً على أوامره ومحابه.(ابن القيم،1989،ج2، ص157)


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، سلسلة أركان الإيمان، الإيمان بالرسل، دار المعرفة، بيروت، 1432ه-2011م صص189-194

ابن القيم، تهذيب مدارج السالكين هذبه عبد المنعم صالح العلي العزي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1409 هـ/ 1989م.

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد القاسم.1416ه-1995

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس