ترك برس

سلّط الأكاديمي والسياسي التركي، ياسين أقطاي، الضوء على السنوات التأسيسية الأولى للجمهورية التركية، وما شهدته من قيام بعض الساسة العلمانيين بتنفيذ مشروع بعنوان "تتريك العبادات" عوضًا عن الدخول في مواجهة مباشرة مع الدين، في خطوة كانت تهدف إلى النأي بالهوية الوطنية التركية عن تأثير الثقافة العربية من خلال خلق مسافة بين الأتراك والعرب، ومن ناحية أخرى كان يُعتقد أن النصوص المكتوبة باللغة التركية لن تكون لها أي فرصة في تحدي علوم القرآن المتطورة بالفعل.

وفي مقال له على موقع "الجزيرة نت"، قال أقطاي إن الساسة العلمانيون في تلك الحقبة "كانوا يظنون -عن جهل- أن اتباع هذه السياسة سيجعل أولئك الذين يفهمون القرآن يعتقدون أنه قائم على قصص خرافية وغير عقلانية وغير علمية، لذلك شرعوا في ترجمة القرآن والأحاديث النبوية إلى التركية وكلهم ثقة بنجاح مشروعهم."

وأضاف: "من بين الأشخاص الذين قبلوا بهذا المشروع محمد عاكف إرصوي في ترجمة القرآن، ومحمد حمدي يازر الإيلماليلي في تفسير القرآن، وبابان زاده أحمد نعيم في ترجمة صحيح البخاري وتفسيره."

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

لكن المعطى المثير للاهتمام هو أن كل هذه الأسماء كانت معروفة بكونها ذات توجّه إسلامي، ومن الواضح أنها لم تكن مرتبطة لا من قريب ولا من بعيد بأهداف هذا المشروع. لكن ما آمنوا به وما دفعهم إلى قبول هذا المشروع يتناقض مع ما كان يسعى لتحقيقه العلمانيون الذين كانوا يتوقعون من هذا المشروع إبعاد الناس عن دينهم من خلال جعل كل شيء باللغة التركية حصرًا. وعلى العكس من ذلك، كان لهذه الشخصيات إيمان راسخ بأنه كلما زاد فهم الناس للقرآن رأوا عظمة الإسلام ودقته وعمقه واتساقه المعجز.

وكان الجمع بين هذين الهدفين المتناقضين العامل الذي جعل المشروع ممكنًا وقابلًا للتنفيذ. كان من المفترض لمهمة تنفيذ هذا المشروع أن تكون على عاتق أحمد حمدي أكسيكي المعروف أيضًا بموقفه الإسلامي، وذلك نيابة عن وزير الشؤون الدينية، ومن الواضح أن أكسيكي كان يأمل الاستفادة من التقاء هاتين النيتين وقام بتحويلها إلى سياسة.

انسحب الشاعر الوطني التركي شاعر نشيد الاستقلال محمد عاكف إرصوي من المشروع عندما علِم أن الترجمة التي وافق على القيام بها ستُستخدم لأغراض مختلفة عما يؤمن به، وأعاد الأموال التي حصل عليها. كان من السهل نسبيًّا على إرصوي أن ينسحب من هذا المشروع أثناء وجوده في مصر، إلا أن هذا ليس حال البقية.

فقبل وقت قصير من قبول الإيلماليلي لهذا الواجب، كان قد حُكم عليه بالإعدام في محكمة الاستقلال كما أصبح عاطلًا عن العمل بسبب إغلاق المدرسة التي كان يعمل فيها. وبعد تبرئته، دخل الإيلماليلي في عزلة في منزله بإسطنبول ولم يخرج مرة أخرى طوال حياته، وهكذا استطاع القيام بعمله في التفسير بمعزل عن النظام وممارساته في الخارج من دون أن يعرف نيته الحقيقية.

كان هناك تناقض عميق بين الحياة التي رآها حزب الشعب الجمهوري مناسبة لأشخاص مثل الإيلماليلي والحياة التي عاشوها بالفعل مع القرآن الذي آمنوا به وحاولوا تفسيره، وكان البديل لمحاولة التغلب على هذا التناقض إعدام أشخاص مثل عاطف الإسكيليبي ومغادرة آخرين مثل محمد عاكف إرصوي البلاد. أما من بقي منهم فكان عليه أن يعيش تجربة "غريب في وطنه، منبوذ في وطنه"، على حد تعبير الشاعر.

لا شك أن التفسير الذي عمل عليه الإيلماليلي كان بالتأكيد عملًا استثنائيًّا ليس فقط في تركيا بل في العالم الإسلامي بأسره، وهو يقارن من حيث القيمة بأعمال مثل "في ظلال القرآن" لسيد قطب، و"تفهيم القرآن" للمودودي، و"التحرير والتنوير" للباحث التونسي الطاهر بن عاشور، ولكن مع الأسف لم يكن بمثل انتشار هذه الأعمال لأنه لم يترجم إلى اللغة العربية أو أي لغة أخرى ولم يصل إلى بقية العالم الإسلامي، كما أن اللغة المستخدمة في كتابته قديمة مقارنة بلغة اليوم.

يتبع التفسير نهجًا جادًّا للغاية وبعيدًا كل البعد عن لغة الدعاية القادرة على توجيه الجماهير في الاتجاه الذي تريده الأحزاب العلمانية. لذلك، ربما مثّل هذا العمل خيبة أمل لمن أمر به منذ البداية. ويمكن النظر إلى الأثر الذي قدمه الإيلماليلي "دين الحق لغة القرآن" على أنه كان إجابة رائعة على النية التي كانت وراء هذه المهمة، ومن حسن الحظ أنه لم يرفض القيام بها مثل عاكف إرصوي.

أدرك أتباع العلمانية آنذاك أن هذا الكتاب لا يناسب سياساتهم العلمانية، فقاموا بتخزينه مباشرة بعد الانتهاء من طباعته، ولم يحظ بعرضه أو قراءته أو تدريسه وظل حبيس الظلام حتى عام 1950.

لم يتضمن تفسير الإيلماليلي أي كلام يظهر موافقته على السياسات الدينية في حقبة الجمهورية آنذاك بل كان في تفسيره لبعض الآيات ما يحث على الترابط الديني؛ وخير مثال على ذلك ما ورد في تفسيره للآية "إياك نعبد وإياك نستعين" من سورة الفاتحة فقد شرح فيها أن على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة وألا يقفوا أفرادًا أمام الله، وهذا للأسف الشديد ما لا نراه اليوم من حال المسلمين.

إن مشروع تتريك العبادات أملًا في أن يبتعد الناس عنها شيئًا فشيئًا هو خطة لم ولن يُكتب لها النجاح أبدًا، وسيخيب أمل العلمانيين فيها كما خاب سابقًا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!