سعيد الحاج - أخبار تركيا

انقضت لحظات الصدمة والفرحة التي أعقبت مباشرة النتائج غير الرسمية للانتخابات البرلمانية التركية، وتركت مكانها لحساب المآلات وطرق الخروج من المأزق السياسي الذي أوصلت إليه النتائج. فبعد التصريحات الأولية عالية السقف حادة المواقف من أحزاب المعارضة خاصة، تسيطر على الساحة السياسية والإعلامية الآن أحاديث التوافق والحكومات الائتلافية والصيغ الممكنة للحكومة المقبلة لتفادي الفراغ والانتخابات المبكرة، بغض النظر عن نوايا وأهداف هذه التصريحات بطبيعة الحال.

ابتداءً، تلفت الأنظارَ تصريحاتٌ متضاربة رغم تقاربها الزمني من مختلف الأحزاب، ويبدو لي أن سبب ذلك هو أن كل هذه الاحزاب تريد إظهار خطاب متشدد لرفع سقف التفاوض ومضاعفة مكاسبها وحقائبها في أي حكومة مرتقبة قد تشارك فيها، لكنها من ناحية أخرى تريد أن تصدّر للمواطن/الناخب رسالة إيجابية برغبتها في التعاون، حتى لا تظهر وكأنها تسعى لإفشال جهود الحكومات الائتلافية، كي لا تدفع ثمن ذلك في أي انتخابات قادمة، سيما الانتخابات البرلمانية المبكرة المحتومة عاجلاً أم آجلاً.

من ناحية أخرى، تدرك أحزاب المعارضة أنها أمام فرصة تاريخية اليوم بتراجع العدالة والتنمية وعدم قدرته على تشكيل الحكومة بمفرده، وترى أنها أمام إمكانية تركه على مقاعد المعارضة لأول مرة منذ تأسيسه، إذا ما استطاعت التوافق بينها على رفض مشاركته وتشكيل حكومة ائتلافية ثلاثية بينها، أو على الأقل حكومة أقلية من الشعب الجمهوري والحركة الديمقراطية يدعمها الشعوب الديمقراطي ويعطيها الثقة من الخارج.

وإضافة إلى فرصة التخلص من العدالة والتنمية، ترى أحزاب المعارضة في تشكيلها الحكومة فرصة ذهبية لتصفية بعض الحسابات مع الحزب الحاكم الحالي والرئيس اردوغان – في حال توافقت – من خلال إعادة فتح ملفات الفساد التي بُرّئ منها الوزراء الأربعة، إضافة لصلاحيات وموقع اردوغان في الحياة السياسية، والقصر الرئاسي الخلافي الذي يقيم فيه ..الخ.

على اليد الأخرى، لا تتحلى أحزاب المعارضة بنسبة ثقة مُرضية ببعضها البعض، وتخشى أن يسعى أحد أطرافها إلى الاتفاق مع العدالة والتنمية على تشكيل الحكومة الائتلافية مما يعزز مكاسبه ويجعل الباقين في صفوف الخاسرين، ولذلك فهي – جميعاً – لم توصد الباب بشكل حازم وحاسم ونهائي أمام “إمكانية” التحالف مع “أي كان” في سبيل عدم دفع البلاد نحو الفراغ الحكومي، والتأكيد على أهمية تطبيق مبدأ “الاسمترارية” في النظام السياسي.

تبدو إذاً أحزاب المعارضة الثلاثة – الحالية – راغبة في ترك باب التفاوض مفتوحاً، باعتباره فرصة لاستثمار تراجع الحزب الحاكم ومحاولة الحصول على أعظم المكاسب الممكنة، لكن دون تشدد مبالغ به أيضاً حتى لا تجد نفسها خارج المعادلة، ولذلك فهي تسارع إلى وضع شروطها و”خطوطها الحمراء” لكن أيضاً بنفس الوقت تؤكد على أنها حريصة على تشكيل حكومة ائتلافية بأي شكل.!!

بيد أن المشاركة في الحكومة ليست أيضاً خياراً دون مخاطر. فهذه الأحزاب بعيدة عن الحكم منذ 13 عاماً على الأقل، وبالتالي فهي لم تشارك في القفزة التركية التي حققها العدالة والتنمية رغم العديد من المعيقات والعقبات. فهي أمام خطورة البقاء في ظل العدالة والتنمية – صاحب المشروع والمتمرس به – في حال شاركته الحكومة، أو تحمّل مسؤولية الفشل في حال شكلت حكومة من دونه ولم تستطع قيادة تركيا نحو الاستمرار في إنعاش الاقتصاد، وهو ما سيضعها أمام مقصلة الانتخابات المبكرة وحكم الناخبين.

ويبدو هذا المعنى أوضح إذا ما وضعناه في سياق العديد من استطلاعات الرأي التي نظمت خلال الأيام القليلة الماضية بعيد الانتخابات، وأظهرت معظمها ندم أطياف غير قليلة من عدم التصويت للعدالة والتنمية أو التصويت لغيره باعتبار أن ذلك أدى إلى تشويش وغموض حيال المستقبل وأضر بالاقتصاد بسبب عدم الاستقرار السياسي، وبالتالي فربما تحمل الانتخابات البرلمانية المبكرة – الآن مباشرة أو إثر فشل حكومي قادم – مفاجآت غير سارة لأحزاب المعارضة، بما في ذلك الشعوب الديمقراطي الذي قد يكون مرة أخرى أمام استحقاق العتبة الانتخابية.

إذاً، وباختصار، فالخيارات أمام المعارضة التركية بمختلف أحزابها كثيرة ومتعددة، لكنها ليست أبداً دون مخاطر. فالاستعداد المبدئي للمشاركة مع العدالة والتنمية مثلاً سيقلل من المكاسب، والتمنع الشديد قد يضعها خارج المعادلة، والمشاركة مع العدالة والتنمية قد يضعها في الظل، وتشكيل حكومة ائتلافية دونه قد يفشلها ويضرها على المدى البعيد، والانتخابات المبكرة قد تعكس النتائج وتستدرك ما فات.

في الخلاصة، ليس العدالة والتنمية وحده المأزوم وفق النتائج الصادرة – كما يظن الكثيرون – أو دقيق الحسابات والخيارات، ولكن الجميع أمام مفترق طرق وحسابات معقدة ودقيقة، كما السائر على سراط فوق وادٍ سحيق، وهو ما يجعل الجميع بلا استثناء أمام لحظة تاريخية فارقة قد تصوغ مستقبل تركيا وخريطتها الحزبية على مدى سنوات طويلة قادمة.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس