د. مصطفى حامدأوغلو - خاص ترك برس

حظيت التجربة التركية منذ بدايتها باهتمام ومتابعة بالغين ، من قبل الشعوب والدول العربية بشكل عام ، والحركات الاسلامية والتحررية بشكل خاص ، ليس لأنها التجربة الديمقراطية الناجحة الوحيدة ببلد مسلم ، بل كانت هناك اسباب عديدة أضفت ميزات كثيرة لها ،لقرب تركيا من المحيط العربي ، والتأثر والتقارب بين شعوب المنطقة ومايربط بينهم من روابط قرابة وتاريخ وحدود مشتركة.

زاد من هذا الاهتمام وعززه مواقف رجب طيب أردوغان ونجاحاته على المستوى الداخلي والخارجي ، منها الانجازات الاقتصادية ، وعلمية التغيير الديمقراطي والمجتمعي التي قام بها ، ومواقفه الدولية ، واعتراضه على النظام الدولي ، ومساندة المظلومين ببلاد كثيرة.

لم يقتصر هذا الاهتمام على الشريحة المُعجبة والداعمة لهذه التجربة، بل كانت محل متابعة وترقب وربما بخوف وقلق وضجر وتذمر أيضاً ، من قبل بعض الانظمة بالمنطقة والشرائح التي تفضل الحاكم المستبد الظالم على مجيء الديمقراطية التي قد تجلب للحكم من لا يتفقون معهم بالفكر والمعتقد .

مع بدايات ما سميى بالربيع العربي "الآفل" وانطلاق الحراك الشعبي المطالب بالتحرر والعدالة  والديمقراطية في كثير من الدول العربية ، وظهور حركات يغلب عليها  صفة " الاسلامية" بدا واضحاً وجلياً القراءة الخاطئة للتجربة التركية ، والبعد عن فهم جوهرها وبعد نظرها وعمق استراتيجتها ..

كان هذا واضحاً على الحركات التي استطاعت الوصول لسدة الحكم بشكل كامل او بالمشاركة مع الآخر،  أو خلال مسيرة التحرر والحراك الثوري عند بقية الجماعات والحركات الأخرى..

أردوغان والتغيير :

بداية القراءة الخاطئة كانت بعدم قراءة عملية التغيير  بشكل صحيح ، التغيير الذي قام به أردوغان وزملاؤه في فترة من الزمن لم يكن الخروج عن الحركة الأم بالأمر الهين ، بدون مخاض عسير ومضاعفات مؤلمة.

لقد وجد أردوغان نفسه أمام مرحلة مليئة بالمعوقات والحواجز والتحديات ، الفكرية والسياسية والمجتمعية والتربوية، تحتاح عملية التغيير بها لموقف قوي وجريء، فخرج على الملئ ليقول للجميع أنني "تغيرت" وخلعت قميص المرحلة الماضية..

هو لم يخلع قميص المبادئ والقيم ، ولا قميص الهدف والعمل ، لكن انسداد الافق امامه ومتطلبات المرحلة ، وحالة المجتمع التركي بتلك الفترة ، والمواقف الدولية ، وسيطرة القوة العسكرية والقضائية والفكر العلماني المستبد كان يتطلب منه أن ينشق عن معلمه الروحي بتلك الفترة عملياٌ وساسيا.

وجد نفسه بطريق مسدود داخل حزبه الذي كانت تسيطر عليه عقلية كبار الحرس القديم الحذرة من خوض التجارب الجريئة والانفتاح على الآخر إلا ضمن حدود محدودة ضيقة، وضمن هيمنتهم عليها.

ووجد نفسه أمام مجتمع له موقف مبدئي وقناعات راسخة لم يكن بالأمر السهل تغييرها من خلال النهج الكلاسيكي وقيمصه القديم ..

وكان لابد من التغير والتغيير الذي لا يقوم به إلا الكبار...

تعرض للنقد والاتهام من معلميه وأخوته الكبار  وزملاء الأمس، وصل لدرجة التخوين وأنه باع نفسه للغرب والعسكر وأنه قد خرج عن الطريق الصحيح .

وتعرض للنقد والتهكم من قبل الطرف الآخر، العلمانيين والغرب الذين شككوا  بهذا التغير واتهمهوه بالتقية والغش والخداع..

لكنه كان صادقا بما قاله وقام به...

جنح كثير من العرب والاسلاميين بشكل خاص – بسبب العاطفة الدينية والارتباط الروحي – لقراءة هذا الأمر على أنه تفاهم سري متفق عليه بين أردوغان ومعلمه أربكان .. وهذا ما انعكس على كثير من التصرفات اللاحقة عندما سعى البعض لتشكيل تنظيمات ومؤسسات بناء على هذه النظرية وادارتها عن بعد ، ولذلك لم تنشد النجاح المطلوب ولم تحدث التغيير المنشود.

وهذا ما يسفر ذهاب البعض اليوم ايضاَ لتفسير انشقاق علي باباجان وداووداغلو بنفس التفكير والسناريو...

ربما البراءة السياسية ...!!؟؟ إن لم نقل الجهل بالسياسة...

عباءة أردوغان  هذه المرة كانت أوسع من عباءة معلمه أربكان وحرسه القديم...

  لأنها كانت شمسية وطنية قومية ليبرالية محافظة جامعة، بكل ما تحمله هذه المعاني من كلمات حقيقية ، لذلك لا عجب أن يكون وزير الثقافة في أول حكومة يرأسها أردوغان هو السكرتير السابق لحزب الشعب الجمهوري ..

أردوغان قام بالبحث عن أبناء الاناضول الأكفاء المغمورين المهمشين، الغيورين على مصلحة وطنهم وحرية بلادهم وعشقهم لديمقراطيتهم واخلاصهم لقضيتهم..

ولا أنسى كيف خرج أحدهم من اصحاب العلمانية المستبدة وقال بتهكم واحتجاج حينها : من أين جاء هؤلاء !؟؟

وهذا ما لم تستطع الحركات العربية والاسلامية بشكل خاص فهمه وتطبيقه ...

اللاءات الثلاث :

انطلق أردوغان من لاءات ثلاثة بمسيرته الأولى ، وهي لا للعصبية الدينية ، ولا للعصبية العرقية ، ولا للعصبية المناطقية ..

الأساس هو الانسانية والوطنية وخدمة المواطن ..

هذه اللاءات الثلاث هي التي فتحت الطريق أمام أردوعان لينال أكبر تأييد من شريحة كبيرة من الشعب التركي ، ومن كافة المكونات القومية والدينية والفكرية والجغرافية..

كان حزبا يحمع كل المكونات وليس مكونات تشكل أحزاباً..

وهذا ما جعلني أكتب مقال بعنوان مخاطر على الثورة السورية في بداياتها محذراً من الوقوع بهذه المخاطر ، التي طغت ولاتزال على كثير من مراحل الحراك الشعبي العربي ..

كانت هذه هي القراءة الخاطئة الثانية ، عندما تمزقت الشعوب وافترقت على هذه العصبيات والنعرات،  ونسيت أن تلتقي على قيم ومفاهيم تجمعها على الوطنية والمواطنة والحرية والعدالة الانسانية...

تمزقت الشعوب التي كانت متآخية، وتناحرت فيما بينها ، وتقاسمت المناصب الوهمية قبل أن تحقق ما كانت تصبوا له الشعوب من حرية وعدالة ..

استعجال قطف الثمار:

هي القراءة الخاطئة الثالثة للتجربة الأردوغانية حيث استعجلت كثير من الجماعات والحركات الشعبية والاسلامية والقومية قطف الثمار ..

واقتتلت على جلد الثور قبل صيده ...

كثير هي الأمور الحساسة والمهمة التي لم يستطع أردوغان حلها بشكل مباشر ومبكراً  ، ومنها الحجاب ، حتى فترة تعتبر متأخرة بالنسبة لأهمية وأولوية هذا الأمر..

لقد واجه أردوغان مقاومة سياسية ، وممانعة بيروقراطية ، ومعاندة عسكرية، وعداوة قضائية ، خاصة بالمراحل الأولى من حكمه ، من أبرزها فتح دعوة لاغلاق الحزب بالعام 2007 م وهو في عز فوزه،  ومعارضة العسكر لترشح عبدالله جول لرئاسة الجمهورية بالعام 2011 بعد عشر سنيين تقريبا من حكم العدالة والتنمية ...

بينما استعجلت - ولاتزال - كثير من حركات الربيع العربي القفز لمراحل لم تأت بعد والاقتتال والاختلاف حتى على مسمى الدولة واليوم القادم والمناصب والحقوق وشكل الحكم قبل الأوان .

ملاحظة أخيرة

الأخوان والعدالة والتنمية:

سعت كثير من الصحف والاقلام الغربية والعربية العلمانية ، على وصف العدالة والتنمية التركي بأنه امتداد لفكر الأخوان بتركيا ، وتصف حزب العدالة والتنمية بأنه يمثل الاسلام السياسي ...

وربما دغغ هذا الوصف مشاعر كثير من الاخوان واعتبروا  هذا النجاح هو نجاح لهم ولتجربتهم...

الحقيقة أن الغرب يدرك ويعرف عدم مصداقية دعواهم، لكنهم يريدون صبغ كل تحرك وطني تحرري من قبل ابناء المسلمين بأنه خطر عليهم وعلى مبادءهم حتى وإن كان ضمن لعبة الديمقراطية التي هم من أوجدها وأسسها ورسم معالمها .

والحقيقة ايضاً تقول أن العدالة والتنمية هو حزب سياسي يعمل ضمن القوانيين التركية الناظمة لكل الأحزاب ، وهو ليس حزب اسلامي كما أوضح ذلك أردوغان منذ بداية تأسسيس الحزب ،لكن ربما ما يميزه أكثر من غيره  من أحزاب بكثرة الاعضاء المحافظين به .

بالطبع هناك قراءات  اخرى كثيرة تحتاح من النخب الغربية التوقف عندها عندما تدرس التجربة التركية التي نجحت بقيادة تركيا على مدى أكثر من عقدين مليئة بالتغيرات والانجازات متحدية كل العقبات والمطبات .

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس