محمد زاهد جول - آراء حول الخليج

تجمع بين العراق وتركيا حدود جغرافية مشتركة تزيد عن 350كلم، وبحكم هذه الحدود الجيوسياسية وما يربط بين البلدين من تاريخ وحضارة وهوية مشتركة فإن كل ما يجري في العراق يؤثر على تركيا، والعكس صحيح أيضاً، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، ولذلك فإن الدولة التركية معنية باستقرار العراق ووحدته ونهضته ونجاحه، ومعالجته لكافة مشاكله بالتوافق والطرق السلمية، وخروجه من كافة أزماته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

لقد رزح العراق ولأكثر من ثلاثة عقود لخسائر وآثار ثلاثة حروب دولية متعاقبة منذ عام 1980 و1991 و2003، وأخيراً 2014م، حيث سيطرت الدولة الإسلامية في العراق والشام"تنظيم داعش" على نصف العراق، في ظل حكومات طائفية أذاقت الشعب العراقي المصائب والويلات حتى خرج إلى الشوارع مطالباً بمحاسبة الفاسدين والمفسدين، الفاسدين ممن تولوا المناصب السياسية والعسكرية، والمفسدين ممن تولوا مناصب رجال الدين والمراجع المذهبية، التي ارتضت ورسخت القسمة الأمريكية الضيزى في تقسيم العراق دستورياً على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية في دستور بريمر الأمريكي، وليس على أساس المواطنة ولا حقوق الإنسان ولا الدولة القانونية والدستورية الفعلية، فأغلقت التركيبة الطائفية العراق على محيطه الطائفي وعزلته عن محيطه العربي والإسلامي، بل والعالمي أيضاً، خدمة لأوهام إمبراطورية إيرانيةطائفية متشيعة، ونظام سياسي قروسطي يتعامل مع الدول العربية والإسلامية كولايات ينبغي ضمها للإمبراطورية الإيرانية إن لم يكن بالاحتلال المباشر فبالتبعية السياسية وعدم مخالفة المرشد ولا عصيانه وغيرها، فأصبح الجهد المطلوب لحل هذه الأزمات لا يمكن تحديده، وهي متوالية ومتغيرة في معادلاتها الدولية قبل الإقليمية، فضلاً عن مصاعبها وتعقيداتها المحلية بحكم الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة داعش التي تفضل إطالة عمرها لسنوات أو عقود، تستنزف كل مقدرات المنطقة وشعوبها ودولها.

وجهة نظر تركيا لاستقرار العراق وعودته لاعباً فاعلاً في محيطه الدولي والإقليمي:

مقارنة بالوضع السياسي لأحوال العراق وتركيا يمكن القول بأن العراق لم تعرف الاستقرار، فبعد الاستعمار البريطاني منذ الحرب العالمية الأولى عرفت العراق الدولة الملكية الهاشمية المستقرة نسبياً، في أجواء مخلفات حرب عالمية أولى واضطرابات حرب عالمية ثانية، انتهت بانتهاء العهد الملكي عام 1958م، وقيام العهد الجمهوري الأكثر اضطرابا بسبب الانقلابات العسكرية المتوالية، حتى دخولها في العهد البعثي العلماني الاشتراكي من عام 1968 م، لغاية 2003م، فمنذ عام 2003م،دخلت العراق في عهد الاحتلال المشترك الأمريكي والإيراني، حيث تشارك الطرفان الأمريكي والإيراني في الانتقام من نظام حكم حاول أن يفرض نفسه قوة إقليمية منذ عام 1986م، بعد أن خاض حرباً دفاعية ضد محاولات التمدد الإيراني المذهبي باسم الثورة الإسلامية التي قادها الخميني عام 1979م، وأدت إلى دخول العراق وإيران في حرب الثماني سنوات من عام 1980 ولغاية عام 1988م.

لم تكن العلاقات العراقية التركية السياسية حسنة قبل الاحتلال الأمريكي، ولكن السياسة التركية لم تكن في حالة عداء ولا حرب مع نظام صدام حسين، بالرغم من وجود مشاكل ترتبط أساساً بالعلاقات التركية العربية عموماً والعراقية خصوصاً، ومن أهمها قضايا المياه حيث منابع نهري دجلة والفرات من الأراضي التركية، وعلاقات تركيا مع أمريكا وإسرائيل في ذلك الوقت، وتأثير الشمال العراقي الكردي على الحدود التركية العراقية، وبالأخص بعد تبني حزب العمال الكردستاني لنهجه المسلح الإرهابي ضد الدولة التركية منذ عام 1984 م، وضعف سيطرة الحكومة العراقية على الحدود العراقية التركية بفعل العقوبات والحصار الأمريكي والحظر الجوي الدولي على شمال العراق بعد حرب الخليج الثانية عام 1991م، حتى احتلاله، ومع ذلك فقد رفض البرلمان التركي السماح لأمريكا باستخدام الأراضي والقواعد التركية لضرب العراق عام 2003م، في ظل برلمان وحكومة حزب العدالة والتنمية.

إن الدولة التركيةبحاجة إلى دولة عراقية قوية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، لإقامة علاقات متينة معها، وبناء تجارة مشتركة، وضبط الحدود العراقية التركية، فالأمن والاستقرار في العراق وشماله ينعكس مباشرة على الأمن والاستقرار في تركيا، والاستقرار الأمني لا يتحقق بدون استقرار سياسي وديمقراطي في العراق، ولذلك سعت الحكومات التركية المتوالية إلى دعم جهود الاستقرار السياسي في العراق، وبالأخص بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011م، الذي رحل عسكرياً وبقي وريثه وشريكه الإيراني المتشيع يعمل على تكريس الدولة الطائفية التي صنع لها قانون ودستور المحاصصة الطائفية والعرقية، فاستغل الاحتلال الإيراني رحيل الاحتلال الأمريكي لتكريس ضعف العراق وخضوعه للهيمنة العسكرية الإيرانية، وقد ربط حاجة الحكومات العراقية الطائفية إلى الدعم العسكري الإيراني، وإلى حاجتها إلى القيادة الإيرانية في قم وطهران لدعمها سياسياً إقليماً بشكل دائم،بل وفي صراعاتها البينية بين فصائل شيعية طائفية متصارعة سياسياً واقتصادياً، حتى أصبحت الحكومات العراقية لا تستطيع البقاء في السلطة السياسية إلا في ظل الدعم الإيراني والطائفي لها، وفي ظل رضى المرشد خامنئي عن الحكومة العراقية، وكذلك في معادلة معاداة القوى العراقية الأخرى إرضاء للقيادة الإيرانية مهما تسببت في المظالم والفساد والتطهير الطائفي والعرقي كما تجسد في حكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، الذي رفض مغادرة السلطة السياسية إلا بتسليم الموصل إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، بهدف إدخال العراق في أزمات سياسية وأمنية وحروب مستمرة تتذكر عهد المالكي الفاسد وكأنه عصر طمأنينة واستقرار.

لقد وقفت الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية ضد سياسات نوري المالكي الاستبدادية والإقصائية، فساءت العلاقات التركية العراقية بسببه، لأنها كانت أكثر صراحة في العداء الطائفي لباقي المكونات العراقية من العرب السنة وباقي الأطياف العرقية العراقية، وبالأخص بعد أن أصر المالكي على إبعادهم عن السلطة السياسية والعسكرية الحقيقية، وبعد أن نكث فيما وعدهم به من مشاركة سياسية، أدت إلى فرارهم داخل العراق وخارجيه قبل التصفية السياسية أو الشخصية أو الجسدية، مثل فرار نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي إلى تركيا وغيره.

إن الحكومة التركية لا تتعامل مع الحكومات العراقية ولا غيرها بنظرة طائفية ضيقة، ولكنها في نفس الوقت لا تسكت عن المظالم الطائفية، ولا توافق على الإقصاء السياسي لأسباب طائفية أو عرقية، لذلك وقفت الحكومة التركية ممثلة برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان آنذاك ضد سياسات المالكي الطائفية والاقصائية، وبعد تنحية المالكي وتولي رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي للحكومة العراقية سعت الحكومة التركية إلى فتح صفحة جديدة مع حكومة بغداد، مع إدراكها أن القرار السياسي الحقيقي ليس في بغداد وإنما في طهران، ولكن التعامل مع الواقع الظاهري مطلب سياسي على أمل أن يكون مدخلاً جديداً في تحسين العلاقات العراقية والتركية، وأن يصبح مفتاح تغيير حقيقي وإيجابي بين الحكومتين العراقية والإيرانية.

إن المظاهرات التي تخرج اليوم في المدن العراقية تمثل صرخة ألم على مآسي الاحتلال الإيراني للعراق، الذي لا يزال يستثمر أو يستغل مخلفات الاحتلال الأمريكي الذي أجهز وقضى على دولة العراق العربية بحجة أسلحة الدمار الشامل الكاذبة، فالاحتلال الأمريكي قضى على الجيش العراقي، ومزق كيان الدولة والحكومة العراقية السابقة، وصنع للطائفيين دستوراً خاصاً لا ديمقراطية فيه، والحكومات الطائفية التي تشكلت على أساس هذا الدستور الأمريكي اصطنعت لنفسها قوانين خاصة في الإرهاب والاجتثاث والتصفية لكل معارض للاحتلال العسكري أو معارض للاحتلال السياسي، أو معارض للاحتلال الطائفي المتشيع، ولذلك عندما خرجت المظاهرات ضد المرجعية المذهبية (الدينية الطائفية)، أخذت الدعاية الإعلامية الإيرانية باتهام المظاهرات بأنها مدفوعة من الخارج ومن أعداء العراق وحكومته وأمنه واستقراره، ولا تزال تعمل المرجعية المذهبية الطائفية المتشيعة لامتصاص هذه المظاهرات والالتفاف عليها والهيمنة على مطالبها، لأن المطالبة بمحاسبة الفاسدين تبدأ بالمالكي وتنتهي بالعبادي وتمر بهادي العامري والسيستاني وغيرهم، وهذا الطريق هو طريق النجاة في نظر الكثيرين من الشعب العراقي، لإعادة العراق إلى مساره الصحيح، فلا تتقدم الدول إلا بعد تحريرها من الاحتلال الداخلي والخارجي معاً.

التحديات التي تواجه عودة العراق لمحيطه الدولي والإقليمي واستقراره:

إن التحديات تكمن في القوى الفاعلة على الأرض العراقية أولاً، وتكمن في انعدام الإرادة الدولية الحقيقية لعودة العراق إلى محيطه العربي والإسلامي والعالمي من قبل هذه القوى المحلية والإقليمية والعالمية، فالقوى الإقليمية الإيرانية بحكم إدراكها أنها في ظروف استثنائية في السيطرة على مقاليد الحكم العسكري والسياسي في العراق، تعمل بكل ما تملك من قوة لمنع أي تغيير سياسي في النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية، وبالتالي فهي تسعى لإبقاء البلاد على حالها حتى لو مات معظم الشعب العراقي، حتى لو احتلت داعش نصفه الآخر ، لأن القسم المرشح للقتل والموت والحرق والتشريد والمعتقلات من الشعب العراقيفي نظرهم هو عدوهم الأيديولوجي أو العقدي أو المذهبي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، وبالتالي فإن إيران وأتباعها المتشيعينغير حريصينعلى الإصلاح الذي يؤدي إلى المشاركة الحقيقية في الحكم والسلطة والتشريع والأجهزة الأمنية والعسكرية، ولا في محاربة تنظيم الدولة "داعش"، حتى وهو يهدد حكومة بغداد بالخطر، فالحكومة العراقية رفضت تسليح العشائر العربية السنية بالسلاح بالرغم من القرار الذي صدر عن الكونغرس الأمريكي، وطالبت الحكومة العراقية الطائفية أن يكون تسليح وتشكيل فصائل المقاتلين السنة تحت وصاية الحشد الشعبي الذي تم تأسيسه بفتوى السيستاني في حزيران 2014م، كمؤسسة شعبية مسلحة تقاتل المنافس (العراق الآخر)باسم الإرهاب، ولكن ضحاياهم كانت من المواطنين السنة في عمليات تطهير عرقي وطائفي كما حصل في تكريت وغيرها.

وحيث أن داعش تسيطر على أكثر من نصف أراضي العراق، ويسيطر الأكراد على إقليم كردستان العراق، وهو القسم المتبقي من شمال العراق، فإن ما تبقى يرزح تحت الاحتلال الإيراني بقيادة زعيم فيلق القدس قاسم سليماني التابع لقيادة الحرس الثوري التابع للمرجعية المذهبية في قم، وهذه القسمة من الممكن أن تكون قد سعت لها أمريكا وإيران بهدف تقسيم العراق على أساس الواقع الديمغرافي، ولذلك قد تكون بعض المعارك بين هذه الأطراف الثلاثة بهدف فرض واقع ديمغرافي جديد يدخل في الحدود الجغرافية والسياسية في المستقبل القريب، فالحديث عن التقسيم أصبح اللغة الأعلى من وجهة نظر أمريكية وإسرائيلية وكردية، وإيران تبدي في الظاهر معارضة ولكنها تسعى لفرض هذه التجزئة لأنها الضمانة الأكثر عمراً لبقاء احتلالها في العراق، إذا تم التفاهم بينها وبين تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على وقف إطلاق نار واحترام كل طرف حدود الآخر ، وهذا الوضع هو المعمول به الآن بدرجة معينة، مع خروقات حربية قد تكون مدروسة في سياق المشروع الكلي لتقسيم العراق.

في هذه الظروف لا أمل لعودة العراق إلى محيطه إلا مقسماً، والتقسيم سوف يفرض الصراع العسكري والسياسي لسنوات وعقود قادمة، وهذه الحروب المرشحة للازدياد في المستقبل سوف تؤثر على دول الجوار العربي والتركي وغيرها، فالدول العربية وبالأخص دول الخليج العربي مهددة بالتوتر الطائفي الذي لن تتخلى عنه السياسة الإيرانية مهما حاولت دول الخليج العربية الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لوقفه، لأن الفرصة التي واتت إيران المتشيعة بعد عاصفة الحزم وقبلها لن تردعها عن مواصلة تخريب البيت العربي وتفكيك دوله على الطريقة اللبنانية والعراقية والسورية واليمنية، وهي لا تخشى خسارة إذا لم تستخدم الدول العربية وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي سياسة دفاعية وهجومية في نفس الوقت ضد الدول التي تعاديها وتعمل على تفكيكها وتدمير مجتمعاتها بالصراعات الطائفية، وما تفجيرات البحرين والمساجد والكشف عن الخلايا الإرهابية التابعة لحزب الله اللبناني في الكويت والبحرين وغيرها إلا رسائل إنذار إيرانية للمرحلة القادمة.

وإذا كانت إيران تستخدم ضد الدول العربية التهديد الطائفي من خلال استغلال المتشيعين العرب، فإنها تستخدم ضد الدولة التركية الورقة الطائفية أيضاً بالرغم من ضعفها في تركيا، ولذلك لجأت إيران إلى استخدام الورقة العرقية في تركيا وهي الأخطر، حيث وجد الحرس الثوري الإيراني ثغرة في جدار العداء الإيراني والكردي من خلال تحالف الأحزاب الكردية اليسارية مع نظام الأسد، في السابق بين حزب العمال الكردستاني ونظام حافظ الأسد، وتبني حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان للعمليات الإرهابية ضد الدولة التركية منذ عام 1984م، والذي حارب الدولة والشعب التركي لأكثر من ثلاثة عقود حتى التوصل إلى مبدأ المصالحة الداخلية بين الأتراك والأكراد، واخيراً بين حزب الاتحاد الديمقراطي السوري بزعامة صالح مسلم مع بشار الأسد، ودعمهم العلني لتطهير شمال سوريا من السكان الأصليين العرب السنة والتركمان لإقامة كيان كردي انفصالي، يتولى نظام الأسد وفيلق القدس الإيراني الآن تزويده بالسلاح والمال والمقاتلين، ليكون ذلك الكيان الكردي في سوريا أداة إيرانية وأمريكية في مشروع تقسيم سوريا أيضاً، وشوكة في جسد الدولة التركية إذا ما حاولت الدولة التركية ممانعة السياسة الإيرانية التوسعية في سوريا والبلاد العربية.

وللأسف فإن الحكومة العراقية تنسق مواقفها مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري كما حصل في زيارة رئيس الحزب صالح مسلم إلى بغداد مؤخراً، وهذا إن لم يتوقف من قبل الحكومة العراقية فإن احتمالية التوتر والعداء قد تزداد بين الحكومتين العراقية والتركية، فحيدر العبادي يكن العداء لرئيس الجمهورية التركية أردوغان ولحزب العدالة والتنمية، وإن أظهر صداقة سياسية مزيفة بهدف التنسيق في محاربة تنظيم الدولة "داعش"، أو بهدف تحسين العلاقات الاقتصادية بين بغداد وأنقرة.

رحلت أمريكا وتركت العراق لوريثتها إيران لتكريس الطائفية والمحاصصة والإرهاب
نوري المالكي رفض مغادرة السلطة قبل تسليم الموصل لتنظيم داعش لتكريس الأزمات
المطالبة بمحاسبة الفاسدين تبدأ بالمالكي وتنتهي بالعبادي وتمر بهادي العامري وغيرهم
الأمن والاستقرار في شمال العراق يؤثر مباشرة في استقرار تركيا ويبعد شبح الإرهاب
تركيا تدرك أن القرار السياسي العراقي في طهران وليس في بغداد مع صعوبة تغيير المسار 

ـ دور الدول الإقليمية في تأجيل استقرار العراق:

على هذا الأساس والتحليل فإن الدول الإقليمية التي تعمل على تأجيل استقرار العراق هي الدول المستفيدة من بقائه على حاله، في حالة حروب مباشرة ومتواصلة بين مكوناته الطائفية والعرقية، وقد استقدمت الاحتلال الأمريكي لهذه الغاية، ولم تكن مشاركتها للاحتلال الأمريكي إلا لتصل إلى هذه الغاية، فإيران إن لم تستطع الهيمنة على كل الشعب العراقي، فإنها تهيمن على ثلثه المتشيع فكريا وسياسياً وعسكرياً وميليشويا، وحتى لو فقدت سيطرتها على الثلث المتشيع فإنها قد أدخلت العراق في صراعات ونزاعات لا تنتهي لعقود، وبذلك أمنت خطر العراق لسنوات قادمة من وجهة نظرها، وفي نفس الوقت انتقمت لنفسها من الحروب السابقة، وكذلك استطاعت أن تفرض نفسها لاعباً إقليميا ودولياً، حيث أن الدول الكبرى وأمريكا بالذات تفهم لغة الأقوياء، وتخضع لشروط من لديهم أوراقاً سياسية وعسكرية يلعبون بها، مثل اللعب بالحدود اللبنانية الإسرائيلية بواسطة حزب الله اللبناني، أو اللعب بأمن الخليج العربي وحركة ناقلات النفط فيه، إضافة إلى التلويح بالسعي لامتلاك سلاح نووي، واخيراً وليس آخراً العلاقات الاقتصادية الواعدة مع الدولة الإيرانية المستقبلية التي تسعى للتخلي عن إرث خميني الثوري، دون التخلي عن إرثه التوسعي المذهبي، كأداة سياسية لبسط النفوذ والتفاوض الدولي عليه.

لذلك فإن تأثير الحكومة التركية على إصلاح الأوضاع في العراق اليوم محدودة، وقد أدخلته أمريكا وإيران في سرداب أكثر تيها وضياعا وغموضاً من سرداب سامراء، فالتعويل اليوم على انتفاضة الشعب العراقي بكافة قومياته وأعراقه ضد الاحتلال الخارجي بكافة أشكاله، وفي مقدمتها الاحتلال الإيراني، هو طريق صعب ولا يمكن أن يؤتي أوكله شعبيا وسياسياً فقط، ولذلك فإن العراق مرشح لمزيد من الصراعات الطائفية، والتي لم يجن منها إلا القتل والتشريد والدمار وخسارة البلاد لمقدراتها النفطية وحضورها الإقليمي والدولي.

ومن الخطوات المهمة في وضع حد للتدخلات الإقليمية في هذه الدولة العربية، هو أن تتوحد الجهود العربية والتركية في إنقاذ الشعب العراقي مما يعانيه، وبالأخص تنسيق الجهود التركية مع دول مجلس التعاون الخليجي في وضع خطة إنقاذ للشعب العراقي، وقد نجحت جهود دول مجلس التعاون الخليجي في وضع حد للتهديد الإيراني الحوثي في اليمن، وقد كان من عوامل نجاحها اتخاذ القرار العسكري الحاسم بتاريخ 26أذار/مارس 2015م، لوقف تمدد الاحتلال الإيراني لمدينة عدن، ودعم حكومته الشرعية بعد أن أخرجها الاحتلال الإيراني الحوثي من العاصمة صنعاء باجتياح وانقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014م، الذي وصفه خامنئي بانه ثورة ألقت إلى الأبد بالمبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية، والعامل الآخر في النجاح الخليجي في مواجهةإيران في اليمن كان عدالة القضية اليمنية أمام شعوب العالم العربي والإسلامي والعالمي، مما دفع الرئيس التركي أردوغان وحكومة داود اغلو إلى تأييد عاصفة الحزم وتقديم الدعم السياسي واللوجستي والاستخباراتي لها، بل ودعمها بالعتاد العسكري عند الحاجة.

العلاقات التركية العراقية على ضوء الخلاف التركي مع حزب العمال الكردستاني:

لقد سبق الإشارة إلى أن القيادة الإيرانية المتشيعة بدأت باستغلال الورقة العرقية الكردية في إحداث مشاكل للدولة التركية، وليس لرئيسها أردوغان ولا لحزب العدالة والتنمية فقط، وحيث أن القيادة العملية لحزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، التي هي أي جبال قنديل جزء من الإمبراطورية الإيرانية من وجهة نظر إيرانية معلنة، فإن على قيادة قنديلأن تتبع أوامر المرشد خامنئي بواسطة الحرس الثوري الإيراني، ومن خلال فيلق القدس وقائده الجنرال قاسم سليماني، ولذلك فإن التطورات الأخيرة التي وقعت في تركيا من عمليات إرهابية تبناها حزب العمال الكردستاني هي من التحركات والسياسات المشبوهة التي تضغط بها إيران على قيادة قنديل، والحكومة العراقية في بغداد لا حول لها ولا قوة في معارضة السياسة الإيرانية بل هي منفذة لأوامرها، وإلا فمصلحة الأكراد إتمام مشروع المصالحة الوطنية في تركيا، بينما كان موقف السيد مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق ضد قيادة قنديل وطالبها بمغادرة الإقليم، بعد قيام الطيران التركي بقصف مواقعها في جبال قنديل شمال العراق، فكان أن ذهب قسم كبير منهم إلى داخل الحدود الإيرانية، والقسم الآخر من قيادات قنديل دخل إلى الأراضي السورية حيث يسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته وحدات حماية الشعب وتحت حماية فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني في سوريا.

إن الحكومة العراقية أمام مسؤولية أن لا تعبث بالأمن القومي التركي، سواء بقرار منها أو بقرار من إيران، وأن لا تدعم حزب العمال الكردستاني الذي يتبنى الأعمال الإرهابية ضد الشعب التركي، فإيران تريد استخدام الأكراد في تقسيم سوريا أولاً، وإشغال حكومة الدولة التركية بمشاكلها الداخلية، عن طريق الأعمال الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، ولا مصلحة للحكومة العراقية ولا الشعب العراقي في مشاركة إيران في ذلك، بل المصلحة العراقية التعاون والمصداقية مع الدولة التركية، فأهداف إيران هي جعل الكيان الكردي القادم في سوريا تحت الوصاية الإيرانية لبقاء التواصل الجغرافي بين العراق وسوريا ولبنان وطهران، وليس محبة بالأكراد، وبهذه الأطماع يتحرك أكراد سوريا وهم جناح من أجنحة حزب العمال الكردستاني ضد الدولة التركية أيضاً، وهو ليس لصالحهم أيضاً.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس