ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

“من النهر إلى البحر، فلسطين حرة..”

إن الحالة التي يعيشها العالم اليوم تشبه إلى حد كبير أجمل وأكثر الشعارات التي صدرت للتعبير عن الوضع الفلسطيني، فكما أن هناك انتفاضة فلسطينية داخلية فالعالم كله يمر بحالة انتفاضة ضمير من المحيط الهادئ إلى القناة الإنجليزية. حيث خرج الملايين من الناس من جميع الجنسيات والأعراق والأديان والألوان إلى الشوارع في مشهد غير مسبوق شهدته عشرات الدول، ليعبّروا عن انتفاضة ضمير تعاطفًا مع الجانب الفلسطيني في مواجهة العدوان الإسرائيلي المحتل.

ولمعرفة طبيعة هذا التغير الجديد في العالم من المفيد العودة إلى التاريخ وبالتحديد إلى قبل 36 عامًا، فإنه حتى في الانتفاضة الأولى التي بدأت في فلسطين في مخيم جباليا للاجئين في ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن العالم يشهد في كل أنحائه مثل هذا الاحتجاج القوي على وحشية إسرائيل.

وما يثير الدهشة والتفاؤل هو مدى التنوع الأيديولوجي والاتساع الجغرافي للذين شاركوا في انتفاضة الضمير العالمي هذه الأيام، فقد ظهر هذا الضمير في نموذج عارضة الأزياء الأمريكية بيلا حديد التي خرجت عن صمتها وأعلنت دعمها لفلسطين، واعترضت على ما تقوم به إسرائيل ووصفت نتنياهو بأنه هتلر الجديد.

كما رأينا ذلك الضمير في الدوري الأمريكي للمحترفين، من خلال لاعب فريق دالاس مافريكس لكرة السلة الأمريكي كايري إيرفينغ، الذي أعلن تضامنه مع غزة ضد هجمات الاحتلال، وارتدى الغترة (الكوفية) الفلسطينية.

وكذلك ظهر هذا الضمير في دعوات وزيرة الشؤون الاجتماعية الإسبانية إيوني بيلارا التي صرحت بها لدول الاتحاد الأوروبي وكل الساسة الأوروبيين، وذلك حينما صرخت في وجوههم: تحركوا ولا تجعلونا شركاء في الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل التي تسعى للإطاحة بالجميع.

هذا كله علاوة على ما رأيناه في الشعوب التي خرجت بمئات الآلاف إلى الميادين والساحات؛ ليعبّروا عن رفضهم للمجازر التي يقوم بها الاحتلال.

وهكذا يمكننا القول بأن الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة تتشابه إلى حد كبير مع المسيرة الكبرى في واشنطن، حيث أطلق مارتن لوثر كينغ صرخته من أجل حرية السُّود، فقد كانت كبيرة العدد وفعالة لدرجة أن إيلون ماسك شارك على حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي صورة التقطتها طائرة بدون طيار، وأبدى دهشته الكبيرة من عدد المشاركين.

ولم يمض وقت طويل بعد انطلاق هذه التظاهرات في واشنطن، حتى تصدرت لندن الموقف وكأنها تنافس واشنطن في التظاهُر، إذ تم تنظيم أكبر تجمع فلسطيني في لندن التي لم تر مثله من قبل، لدرجة أنه قيل إن ساحة برج ساعة بيج بن لم تشهد مثل هذا الحشد في السنوات الـ50 الماضية.

ولم تغب عن المشهد الدول الأخرى وعلى رأسها ماليزيا وباكستان وتركيا إسطنبول، حيث خرجت مسيرات مليونية قوية في كل منها.

ماذا فعلت انتفاضة الفلسطينيين؟ ماذا يحدث في العالم؟!

عشاق الموضة يزينون المنصة بألوان فلسطينية…

موسيقيون يُشعلون المسرح بالأغاني الفلسطينية…

صحفيون مشهورون استقالوا لأنهم لم يكونوا أحرارًا في نقل الأحداث…

نشطاء ورسَّامو الكاريكاتير وفنانون وأكاديميون وسائقون ونقابيون…

الناس من كل مهنة ومن مختلف التخصصات التي قد تخطر ببالك يتخلون عن صمتهم وسلبيتهم ويتمردون ويصرخون في العالم…

فالأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هؤلاء الناس يعارضون ويحتجون على سياسات دولهم المؤيدة لإسرائيل: فعندما حظرت فرنسا رفع العلم الفلسطيني، تم طلاء شوارع باريس باللون الأحمر والأسود والأبيض، وعندما هددت الحكومة الألمانية باتهام المعارضين بارتكابهم جريمة معاداة السامية، أخذ المتظاهرون يهتفون في ميدان ألكسندر بلاتز الشهير في برلين “فلسطين حرة”.

والحقيقة أننا منذ المظاهرات المناهضة للحرب التي انتشرت في جميع أنحاء العالم في سبعينيات القرن العشرين، لم نشهد مثل هذه الوقفة العالمية المشتركة ومثل هذا التمرد المشترك المنتشر في كافة أنحاء العالم. إن هذا ما يطلق عليه “انتفاضة الضمير”.

ربما لم تواجه إسرائيل مثل هذا الاحتجاج الكوني في مثل هذه الجغرافيا الواسعة، ومن قِبل مثل هذه الحشود الكبيرة طوال تاريخها، كما أن الشعب الفلسطيني الذي عانى منذ نكبة عام 1948، لم يتلق مثل هذا الدعم العالمي.

والخلاصة أن تلك الانتفاضة وهذه التظاهرات كشفت أن بعض الدول ليست على القدر نفسه من شجاعة شعوبها، وليس لديها ضمير مثلها.

وقد صارت القضية الفلسطينية الآن مسألة ضمير لا يعتنقها المسلمون فحسب، بل أيضًا الناس كلهم من جميع الأديان والأعراق.

ولا أحد يمكن أن يتكهن بالتطورات التي قد تذهب إليها هذه الأحداث، لكننا في الوقت نفسه على يقين من أن العالم لن يعود كسابق عهده على الإطلاق.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس