ترك برس

عند تقييم الوضع الحالي، يمكن القول إننا بلغنا أعلى نقطة من التوتر الذي يتصاعد منذ سنوات. فإسرائيل لم تكتفِ بشن هجوم على إيران، بل أعلنت عليها حربًا، وهذه الحرب ستكون لها تبعات لا يمكن الرجوع عنها.

إذا عدنا إلى الوراء، فقد حددت إسرائيل منذ 7 أكتوبر ثلاثة أهداف رئيسية:

1. تدمير غزة بشكل استراتيجي وتهيئة الأرضية لإخلائها من سكانها؛

2. إضعاف امتدادات إيران القريبة من إسرائيل، وخاصة تقليص قدرة حزب الله الهجومية؛

3. إنهاء البرنامج النووي الإيراني.

وقد تحققت بالفعل الهدفان الأول والثاني. بل إن سقوط نظام الأسد ألحق ضررًا كبيرًا بالهيمنة الإقليمية لإيران. والآن جاء الدور على الهدف الثالث.

لكن الاستراتيجية المتبعة لتحقيق الهدف الثالث لا تقتصر فقط على استهداف البرنامج النووي. فنعلم أن إسرائيل في هجماتها خلال شهري نيسان وأكتوبر 2024 استهدفت بدقة أنظمة الدفاع مثل “S-300”. وفي الهجوم الذي شنّته ليل 13 يونيو 2025، قتلت إسرائيل نحو 50 من كبار القادة العسكريين الإيرانيين وعددًا من مهندسي البرنامج النووي. ومن بين القتلى قائد الحرس الثوري الإيراني (IRGC)، مما يكشف عن ضعف استخباراتي خطير لدى إيران.

ومن المرجح أن تستمر إسرائيل في الأسابيع المقبلة في تنفيذ هجمات تستهدف القادة، والقدرات النووية الإيرانية، بالإضافة إلى منشآت إنتاج وتخزين وإطلاق الصواريخ.

وهذا يعني أن إيران دخلت بالفعل الحرب التي كانت تؤجلها لسنوات. وإذا لم يكن رد إيران بمستوى مشابه، واستمرت الهجمات الإسرائيلية، فلن تقتصر القضية على البرنامج النووي، بل ستثير تساؤلات خطيرة بشأن مستقبل النظام الإيراني نفسه. لأن النظام لن يكون قد خسر فقط “خط المقاومة” الذي بناه في الشرق الأوسط لعقود، بل سيكون أيضًا عاجزًا عن الرد بفعالية على هجمات استمرت لأسابيع داخل أراضيه، مما سيقوّض ردعه ومشروعيته الداخلية بشكل كبير.

ومن الناحية العسكرية، في المرحلة الأولى، أطلقت إيران على إسرائيل أكثر من 5 موجات من الصواريخ الباليستية، من بينها صاروخ “فتح-1” الفرط صوتي (Hypersonic)، والذي تمكن من اختراق نظام الدفاع الإسرائيلي وإصابة أهدافه. وتبيّن أن محطات الطاقة الإسرائيلية كانت هدفًا رئيسيًا في هذه المرحلة.

وسنرى في الأيام المقبلة إن كانت هذه الهجمات ستردع إسرائيل. لكن إذا افترضنا من واقع التقديرات العسكرية وتجارب الحرب في أوكرانيا أن إيران تمتلك نحو 2000 صاروخ باليستي كحد أقصى، وأن إسرائيل دمّرت جزءًا من منصات الإطلاق، فبالتالي من المتوقع أن يتراجع عدد الصواريخ التي ستُطلقها إيران لاحقًا.

كما أن الخيارات الجوية الهجومية البديلة لدى إيران محدودة جدًا. فطائرات الدرون “شاهد” يمكن توقع إسقاطها جميعًا من قبل الدفاعات الإسرائيلية، نظرًا لبطئها والمسافة الطويلة بين إيران وإسرائيل.

في المقابل، سيطرت إسرائيل على المجال الجوي الإيراني، ما سيُلحق أضرارًا إضافية بقدرات إيران الهجومية. ووفقًا لهذا التحليل، فإن خيارات إيران تتضاءل تدريجيًا.

عند النظر إلى الصورة الكاملة، يمكننا القول إن الاستراتيجية الإقليمية التي اتبعتها إيران على مدى 15 عامًا الماضية كانت بمثابة “عمى استراتيجي”.

فقد ركّزت على استهداف إسرائيل والنظام الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، وعززت نفوذها في اليمن ولبنان وسوريا والعراق من خلال الاعتماد على جهات فاعلة غير حكومية.

لكن موقف إيران من الثورة السورية خلق قطيعة مع جميع الأطراف الإقليمية الأخرى، خاصة تركيا. في حين أن تركيا كانت قد دعمت إيران في ملفها النووي عام 2010 مع البرازيل، وسعت لمنع العقوبات الأممية عليها.

ومع ذلك، فإن سياسة إيران تجاه سوريا أضرت بعلاقاتها مع تركيا بشدة.

وباختصار، بدلًا من تعميق علاقاتها مع تركيا ومصر ودول الخليج، اختارت إيران سياسات زادت من تباعدها عن هذه الدول.

اليوم، استراتيجية إيران في تحدي النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة قد فشلت تمامًا.

فالولايات المتحدة، عبر إسرائيل، أوصلت الأمور إلى حدّ التشكيك في شرعية النظام الإيراني نفسه، وتقلّص نفوذ إيران الإقليمي تدريجيًا.

ورغم أن الصورة الظاهرة قد تبدو إيجابية بالنسبة لموقع تركيا الجيوسياسي، إلا أن اختراق إسرائيل لهذا الحد في مجال الاستخبارات لا يترك أي بيئة آمنة لأي دولة في المنطقة.

وستسعى إسرائيل إلى تقويض قدرات تركيا العسكرية، نظرًا لأنها تراها تهديدًا على المدى المتوسط، خاصة في ظل تنامي النفوذ التركي.

وعلى الرغم من أن تركيا وإسرائيل ستواصلان سياسة عدم المواجهة المباشرة، إلا أن هذا المشهد الجيوسياسي لا يؤدي إلى توازن، بل إلى المزيد من الاضطراب.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!